19 سبتمبر 2018
اليسار الإسرائيلي وأوهام فلسطينية
في نقاش إعلامي، على هيئة مقالات في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بين بيني بيغن (عضو كنيست، ووزير سابق ونجل رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن)، ممثلا لليمين الإسرائيلي، وأوري أفنيري (سياسي وصحافي سابق ومؤسس "كتلة السلام") ممثلا لليسار، تناول الاثنان موضوع حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. وفيما أصر بيغن على أن السلام مع الفلسطينيين غير ممكن، لأنهم متمسّكون بحق العودة، ويرفضون وجود أي كيان يهودي على أرض فلسطين التاريخية، استطرد أفنيري في طرح رؤيته لموضوع حق العودة. ونقطة البداية عنده أن عودة اللاجئين الفلسطينيين تعني أن إسرائيل لن تستطيع تعريف نفسها دولة يهودية، لأن الأغلبية فيها ستكون فلسطينية. لذا اقترح التفريق بين حق العودة، باعتباره حقا رمزيا تعترف إسرائيل به، وممارسة الحق، أي العودة فعليا إلى المناطق التي هُجٍّر اللاجئون منها، ما يضمن أن العودة سوف تقتصر على عدد صغير من اللاجئين. وليست هذه الفكرة الهزلية التي تفرغ مصطلح الحق من أي معنى له جديدة، وقد تم طرحها في السابق في المفاوضات بين منظمة التحرير وإسرائيل، وفي مباحثات مؤسسات المجتمع المدني (ما سميت مفاوضات المسار الثاني). لكن موقف أفينيري مهم، لأنه يمثل أقصى اليسار الإسرائيلي (باستثناء اليسار المعادي للصهيونية الذي يمكن جمع مؤيديه من الإسرائيليين في قاعة واحدة من الحجم المتوسط). حتى أولئك المحسوبون على أقصى اليسار أو"تيار السلام" يتبنون الدولة اليهودية والأغلبية اليهودية، أي القيم الصهيونية، قيما عليا لا تنازل عنها.
هذا على أقصى اليسار، أما في الأحزاب التي تمثل موقف اليسار الرسمي، فيكاد المرء يستصعب التفريق بينها وبين مواقف ما يسمى الوسط، مثل حزب يائير ليبيد وحزب تسيبي ليفني، ومواقف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو نفسه، فجميعهم يصرحون بأنهم مع نوع من حل الدولتين، وجميعهم ضد إخلاء المستوطنين من الضفة الغربية، وجميعهم يرى في الفلسطيني تهديدا، وجميعهم يشدّد على أن وجود إسرائيل باعتبارها دولة يهودية (أي دولة ذات صبغة يهودية يتمتع فيها اليهود بحقوق خاصة) هو الهدف الأعلى. الصهيونية إذا هي البوصلة الموجِهة، وليست المبادئ اليسارية أو الأممية، مع إمكانية الاختلاف الكمي على بعض التفاصيل، مثل إخلاء المستوطنات الصغيرة والنائية.
جرائم اليسار.. والاندماج
طبعا، لن يستغرب المتابع للسياسة الإسرائيلية عدم وجود اختلاف نوعي، إذ إن اليسار
الإسرائيلي تاريخيا هو من خطط أفظع الجرائم بحق الفلسطينيين ونفذها، ابتداءً من جرائم النكبة. لكن الآمال الكبيرة التي يبنيها بعض التيارات الفلسطينية على هذا اليسار تثير الاستغراب. ولا تقتصر هذه الآمال، أو بالأحرى الأوهام، على بعض التيارات السياسية بين فلسطينيي الأراضي المحتلة في العام 1948، بل هي أيضا موجودة على طرفي الخط الأخضر.
تحالف الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة هو أكبر التيارات السياسية بين فلسطينيي الـ48، ولأعضائه وناشطيه تاريخ طويل من النضال، خصوصا في أعوام الحكم العسكري (1948-1966) وما بعدها. إلا أن الخطاب السياسي لهذا التيار الذي يشدّد على أنه تيار عربي – يهودي، وليس بالضرورة فلسطينيا، يثير أسئلة كثيرة عن طبيعة الرؤية السياسية لهذا التيار، وعن فهم هذا التيار طبيعة الدولة الإسرائيلية. طرح هذا التيار، متمثلا برئيسه أيمن عودة، اندماجي بامتياز، فهو يسعى باستمرار إلى ما يسميها المواطنة الكاملة والتأثير السياسي. وبحسب هذا التصور، يرى هذا التيار نفسه (والفلسطينيين في إسرائيل) جزءا من النظام السياسي الإسرائيلي. ولا يقتصر هذا التصور على نوعٍ من التمثيل في الكنيست على صيغته الحالية، حيث إن النواب العرب بمثابة معارضة دائمة، لا تسعى إلى أن تكون جزءا من الحكومة، بل يطمح لتأثير أكبر وأوسع عن طريق التحالف مع اليسار الإسرائيلي. يسعى هذا التيار إلى إقامة ما تسمى "الكتلة المانعة"، أي كتلة من النواب في الكنيست تعطي الدعم لحزب يساري إسرائيلي (مثل حزب العمل الذي دخل انتخابات العام 2015 تحت اسم المعسكر الصهيوني)، لكي تمكّنه من إخراج اليمين من الحكم، وتشكيل حكومة يسار- وسط. بطبيعة الحال، يعني هذا الدعم عضويةً، وإن كانت غير كاملةٍ في الائتلاف الحاكم، أي الدخول إلى الحكومة. أهم الحجج التي تساق لتبرير هذا الموقف هي دعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال "من الداخل".
حجة أخرى يسوقها هذا التيار هي أن عدم الاندماج يعني الانعزال عن الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وهو خيار مجحف بحق الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، بسبب عدم وجود بدائل للتمثيل والتأثير السياسي، ولأن الامتناع عن العمل في مؤسسات الدولة يعني التنازل عن مصدر كبير للرزق. وليست هذه الرؤية الاندماجية مطلقة، بل تأتي بعدد من الخطوط الحمراء، فالدخول إلى حكومة يسار أو الائتلاف الحاكم ليس تلقائيا، بل هو منوط بشروط، أهمها إنهاء الاحتلال ووقف التحريض ضد الفلسطينيين في إسرائيل.
تتبادر إلى الأذهان أسئلة عديدة عن هذا الطرح الاندماجي. يمكن التساؤل عن مدى جدّية حجة دعم نضال الشعب الفلسطيني من داخل الحكومة الإسرائيلية، فدخول الحكومة، أو دعمها بدون الدخول إليها، يعني الموافقة على سياساتها وتحمل المسؤولية المشتركة لهذه السياسات. وحكومة من حزب العمل تلتزم بإنهاء الاحتلال ستكون حكومة احتلال في فترة المفاوضات التي قد تنجح وقد لا تنجح. في هذه الفترة، سوف تستمر إسرائيل في سياساتها، ومنها حصار غزة والاستيطان (ينبغي عدم نسيان أن نسبة نمو الاستيطان في الضفة الغربية كانت العليا في أيام حكومات اليسار والوسط)، وسوف تكون عقيدتها الأمنية كما هي. دعم حكومة كهذه يعني دعما للحكومة التي سوف تستمر في إدارة الاحتلال وفظائعه. ما سوف يختلف أن هذا التيار السياسي، وبمفهوم أوسع، الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، سوف يصبحون شركاء في اضطهاد أبناء شعبهم.
يوحي هذا الطرح السياسي بأنه لا توجد مشكلة مبدئية لدى هذا التيار السياسي مع الاندماج في
دولةٍ بنت نفسها على مبدأ إزالته، فالدولة ليست فقط دولة فيها مجموعتان مختلفتان من السكان، بل هي دولة بنيت على يد حركة سياسية، تتبنى عقيدة استعمارية. هذه العقيدة، عقيدة الاستعمار الاستيطاني جزء أساسي في هيكلية الدولة، بمعنى أن التناقض بين المستعمِرين والمجتمع الأصلي المستعمَر والسعي إلى إزالة هذا المجتمع بطرق عديدة هو في جوهر بنية الدولة وسياساتها وقوانينها. قد يُحدث دخول حزب عربي الحكومة الإسرائيلية في هذا السياق تغييرا بسيطا في بعض السياسات، لكنه لن يغير العقائد والسياسات الأساسية وطبيعتها الاستعمارية. فهو لن يغير مثلا تعريف إسرائيل دولة يهودية، وجميع المبادئ والسياسات التي تقع تحت هذ التعريف، كالمحافظة على الأغلبية اليهودية، وتشجيع الاستيطان اليهودي في كل أنحاء فلسطين التاريخية، والتشديد على مبدأ تحقيق المصير في فلسطين لكل اليهود أينما كانوا. ولن يؤدي إلى إلغاء قانون العودة الذي يعطي أي يهودي، أو أبناء عائلته من الدرجة الأولى، الحق في الهجرة إلى إسرائيل واكتساب جنسيتها. هذه النقطة هنا جوهرية، ففي حين يكون هذا التيار شريكا في حكومة يسار افتراضية تفاوض الفلسطينيين على حق العودة، وتصر على رفض هذا الحق أو على الأقل تصر على إفراغه من أي معنى، سوف يكون هذا التيار ملتزما قانونيا وسياسيا بفعل الشراكة السياسية بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وتشجيع إسكانهم في النقب والجليل على أراضٍ تمت مصادرتها من لاجئين فلسطينيين، أو فلسطينيين صمدوا في أرضهم.
اليهودي وحده المواطن الكامل
هذا هو المعنى الفعلي للاندماج، إنه تشويه حاد في الهوية الوطنية والسياسية، وتحول الفلسطيني جزءا من هيكلية الاستعمار الاستيطاني في مقابل مكاسب محدودة جداً، وبدون القبول به مواطنا متساويا ولاعباً سياسيا كاملا. ففي دولةٍ تعرّف نفسها يهودية، فقط اليهودي هو المواطن الكامل، أي حتى خيار الاندماج للوصول إلى المساواة غير موجود وغير وارد. الحد الأقصى لما تستطيع المنظومة الإسرائيلية تحمله هو العربي المشوّه، ووجود هذا العربي المشوّه الذي تقتصر مطالبه على إنهاء الاحتلال وإنهاء المظاهر المستفحلة من التمييز (التمييز جزء من بنية الدولة بصفتها يهودية، فهو سيستمر بالوجود ما دامت كذلك) هو أكبر انتصار للصهيونية، فهذا الاندماج هو عمليا نوع من الإزالة السياسية والثقافية.
ليس هذا الاستنتاج من باب الاجتهاد النظري فحسب. فقبل أيام، صرّح الزعيم الجديد لحزب العمل أفي غباي (الرئيس الذي يسعى هذا التيار إلى ودّه) أنه "لن يجلس مع القائمة (العربية) المشتركة في حكومة واحدة. نقطة. فليكن ذلك واضحا." وبرّر هذا الموقف، قائلا لمحاوره "أنت ترى تصرفاتهم، لا أرى أي شيء يمكن أن يربط بيننا أو يوصل بيننا، والذي يسمح لنا أن نكون مع بعض في الحكومة نفسها". ثم أضاف مستطردا في شرح خطته السياسية أنه على استعداد للجلوس في حكومةٍ تضم أحزاب المتدينين واليمين، لأن رؤيته أن "حزب العمل يجب أن يكون بيتاً لكل الإسرائيليين". ولا يرى حزب العمل حتى من يلهثون وراءه كإسرائيليين، فكم بالحري شركاء في الحكم.
يقابل هذا التشوّه تشوّه مشابه ومواز في القيادة الفلسطينية في رام الله، فبدل إيجاد الخيارات والبحث عن البدائل، للخروج من الوضع الحالي، يبدو أن البرنامج السياسي في السنوات العشر الأخيرة يتمحور حول "إقناع" الإسرائيليين بضرورة السلام، فإن اقتنع هؤلاء، فسوف ينتخبون حكومة" يسارية" سوف تكون أقرب إلى توقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ولإقناع الإسرائيليين، نشرت المنظمة إعلانات في صحف إسرائيلية عن مبادرة السلام العربية، وللتواصل بشكل مباشر مع الإسرائيليين أعطى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مقابلات عديدة لوسائل إعلام إسرائيلية أثارت غيرة الإعلام الفلسطيني الذي لا يلقى مثل هذا الترحيب، مع أن أغلب هذه المقابلات هي أقرب إلى جلسات تحقيق منها إلى مقابلاتٍ صحفية مع زعيم
كيان سياسي. وكجزء من عملية "الإقناع"، لا يتوانى سياسيون فلسطينيون من هذا التيار عن الاشتراك في مؤتمراتٍ، مثل مؤتمري هرتسليا ومركز أبحاث الأمن القومي "لشرح وجهة النظر الفلسطينيية"، أو "لفضح فظائع الاحتلال". لم يخطر ببال هؤلاء أنهم يفضحون هذه الفظائع للجمهور الذي يأتي منه من خططها ونفذها. حتى عندما يتسوق الإسرائيليون، يحاول هذا التيار "إقناعهم"، فقد شوهد مرة رجل أعمال فلسطيني، برفقة صديق إسرائيلي له يحاولان إقناع متسوقين في متجر إسرائيلي في مستوطنة في الضفة الغربية بضرورة حل الدولتين، بل تمأسست الرغبة في "الإقناع"، حيث أسست منظمة التحرير الفلسطينيية "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي". على سبيل المقارنة، لم تؤسس المنظمة لجنة لدعم التواصل مع الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات من إسرائيل، بل لم تطلق حتى تصريحا واحدا لدعم هذه الحركة.
من الصعب فهم هذا التيار الذي يسعى إلى "اختراق" المجتمع الإسرائيلي والمغزى من نشاطاته. هل يظن فعلا أنه يستطيع تغيير آراء الإسرائيليين، وأنماط تفكيرهم، عن طريق الإقناع؟ ألم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا للإسرائيلي أن يقتنع؟ فالأمن لهذا الإسرائيلي مستتب بجهد وتمويل فلسطيني وعربي ودولي، والاقتصاد الإسرائيلي ودخل الإسرائيلي ينموان بشكل متواصل. وبينما يستطيع الأخير الذهاب إلى أغلب الدول بدون تأشيرة للاستجمام والتسوق والعمل، يمكنه أيضا أن يسكن في بيت كبير في مستوطنةٍ في الضفة الغربية بسعر منخفض، وأن يتمتع بأفضل الخدمات. تدل كل المؤشرات على أن مصلحة الإسرائيلي هي أن يستمر الوضع القائم على ما هو عليه. ويبدو أن هذا ما لا يستطيع أو لا يريد بعض الفلسطينيين فهمه: أن الموضوع الفلسطيني ليس على بال الإسرائيلي العادي، فهو لا يكترث له، وإن اكترث، من الصعب إقناعه بالتنازل عن امتيازاته باعتباره عضوا في المجتمع المستعمِر، لأن هذه الامتيازات حقيقية وملموسة.
على مر التاريخ، لم يشهد العالم مجتمعا مستعمِرا تنازل عن الاستعمار طواعية، وعن "اقتناع". ليس من الواضح لماذا يظن بعضهم أن هذا سوف يحصل في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. ربما لعدم رؤيتهم إسرائيل حالة استعمارية، أو ربما لانعدام الأفق لديهم وتوجههم إلى الخيار الأسهل والأقل جهدا. كلا الاحتمالين هما تعبير عن حالة من الكسل السياسي والتقوقع الفكري الذي أصاب النخب السياسية الفلسطينية. وهو يعكس أيضا شبكات المصالح المستفيدة من الوضع الحالي، ومن الركض خلف السراب.
هذا على أقصى اليسار، أما في الأحزاب التي تمثل موقف اليسار الرسمي، فيكاد المرء يستصعب التفريق بينها وبين مواقف ما يسمى الوسط، مثل حزب يائير ليبيد وحزب تسيبي ليفني، ومواقف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو نفسه، فجميعهم يصرحون بأنهم مع نوع من حل الدولتين، وجميعهم ضد إخلاء المستوطنين من الضفة الغربية، وجميعهم يرى في الفلسطيني تهديدا، وجميعهم يشدّد على أن وجود إسرائيل باعتبارها دولة يهودية (أي دولة ذات صبغة يهودية يتمتع فيها اليهود بحقوق خاصة) هو الهدف الأعلى. الصهيونية إذا هي البوصلة الموجِهة، وليست المبادئ اليسارية أو الأممية، مع إمكانية الاختلاف الكمي على بعض التفاصيل، مثل إخلاء المستوطنات الصغيرة والنائية.
جرائم اليسار.. والاندماج
طبعا، لن يستغرب المتابع للسياسة الإسرائيلية عدم وجود اختلاف نوعي، إذ إن اليسار
تحالف الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة هو أكبر التيارات السياسية بين فلسطينيي الـ48، ولأعضائه وناشطيه تاريخ طويل من النضال، خصوصا في أعوام الحكم العسكري (1948-1966) وما بعدها. إلا أن الخطاب السياسي لهذا التيار الذي يشدّد على أنه تيار عربي – يهودي، وليس بالضرورة فلسطينيا، يثير أسئلة كثيرة عن طبيعة الرؤية السياسية لهذا التيار، وعن فهم هذا التيار طبيعة الدولة الإسرائيلية. طرح هذا التيار، متمثلا برئيسه أيمن عودة، اندماجي بامتياز، فهو يسعى باستمرار إلى ما يسميها المواطنة الكاملة والتأثير السياسي. وبحسب هذا التصور، يرى هذا التيار نفسه (والفلسطينيين في إسرائيل) جزءا من النظام السياسي الإسرائيلي. ولا يقتصر هذا التصور على نوعٍ من التمثيل في الكنيست على صيغته الحالية، حيث إن النواب العرب بمثابة معارضة دائمة، لا تسعى إلى أن تكون جزءا من الحكومة، بل يطمح لتأثير أكبر وأوسع عن طريق التحالف مع اليسار الإسرائيلي. يسعى هذا التيار إلى إقامة ما تسمى "الكتلة المانعة"، أي كتلة من النواب في الكنيست تعطي الدعم لحزب يساري إسرائيلي (مثل حزب العمل الذي دخل انتخابات العام 2015 تحت اسم المعسكر الصهيوني)، لكي تمكّنه من إخراج اليمين من الحكم، وتشكيل حكومة يسار- وسط. بطبيعة الحال، يعني هذا الدعم عضويةً، وإن كانت غير كاملةٍ في الائتلاف الحاكم، أي الدخول إلى الحكومة. أهم الحجج التي تساق لتبرير هذا الموقف هي دعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال "من الداخل".
حجة أخرى يسوقها هذا التيار هي أن عدم الاندماج يعني الانعزال عن الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وهو خيار مجحف بحق الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، بسبب عدم وجود بدائل للتمثيل والتأثير السياسي، ولأن الامتناع عن العمل في مؤسسات الدولة يعني التنازل عن مصدر كبير للرزق. وليست هذه الرؤية الاندماجية مطلقة، بل تأتي بعدد من الخطوط الحمراء، فالدخول إلى حكومة يسار أو الائتلاف الحاكم ليس تلقائيا، بل هو منوط بشروط، أهمها إنهاء الاحتلال ووقف التحريض ضد الفلسطينيين في إسرائيل.
تتبادر إلى الأذهان أسئلة عديدة عن هذا الطرح الاندماجي. يمكن التساؤل عن مدى جدّية حجة دعم نضال الشعب الفلسطيني من داخل الحكومة الإسرائيلية، فدخول الحكومة، أو دعمها بدون الدخول إليها، يعني الموافقة على سياساتها وتحمل المسؤولية المشتركة لهذه السياسات. وحكومة من حزب العمل تلتزم بإنهاء الاحتلال ستكون حكومة احتلال في فترة المفاوضات التي قد تنجح وقد لا تنجح. في هذه الفترة، سوف تستمر إسرائيل في سياساتها، ومنها حصار غزة والاستيطان (ينبغي عدم نسيان أن نسبة نمو الاستيطان في الضفة الغربية كانت العليا في أيام حكومات اليسار والوسط)، وسوف تكون عقيدتها الأمنية كما هي. دعم حكومة كهذه يعني دعما للحكومة التي سوف تستمر في إدارة الاحتلال وفظائعه. ما سوف يختلف أن هذا التيار السياسي، وبمفهوم أوسع، الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، سوف يصبحون شركاء في اضطهاد أبناء شعبهم.
يوحي هذا الطرح السياسي بأنه لا توجد مشكلة مبدئية لدى هذا التيار السياسي مع الاندماج في
اليهودي وحده المواطن الكامل
هذا هو المعنى الفعلي للاندماج، إنه تشويه حاد في الهوية الوطنية والسياسية، وتحول الفلسطيني جزءا من هيكلية الاستعمار الاستيطاني في مقابل مكاسب محدودة جداً، وبدون القبول به مواطنا متساويا ولاعباً سياسيا كاملا. ففي دولةٍ تعرّف نفسها يهودية، فقط اليهودي هو المواطن الكامل، أي حتى خيار الاندماج للوصول إلى المساواة غير موجود وغير وارد. الحد الأقصى لما تستطيع المنظومة الإسرائيلية تحمله هو العربي المشوّه، ووجود هذا العربي المشوّه الذي تقتصر مطالبه على إنهاء الاحتلال وإنهاء المظاهر المستفحلة من التمييز (التمييز جزء من بنية الدولة بصفتها يهودية، فهو سيستمر بالوجود ما دامت كذلك) هو أكبر انتصار للصهيونية، فهذا الاندماج هو عمليا نوع من الإزالة السياسية والثقافية.
ليس هذا الاستنتاج من باب الاجتهاد النظري فحسب. فقبل أيام، صرّح الزعيم الجديد لحزب العمل أفي غباي (الرئيس الذي يسعى هذا التيار إلى ودّه) أنه "لن يجلس مع القائمة (العربية) المشتركة في حكومة واحدة. نقطة. فليكن ذلك واضحا." وبرّر هذا الموقف، قائلا لمحاوره "أنت ترى تصرفاتهم، لا أرى أي شيء يمكن أن يربط بيننا أو يوصل بيننا، والذي يسمح لنا أن نكون مع بعض في الحكومة نفسها". ثم أضاف مستطردا في شرح خطته السياسية أنه على استعداد للجلوس في حكومةٍ تضم أحزاب المتدينين واليمين، لأن رؤيته أن "حزب العمل يجب أن يكون بيتاً لكل الإسرائيليين". ولا يرى حزب العمل حتى من يلهثون وراءه كإسرائيليين، فكم بالحري شركاء في الحكم.
يقابل هذا التشوّه تشوّه مشابه ومواز في القيادة الفلسطينية في رام الله، فبدل إيجاد الخيارات والبحث عن البدائل، للخروج من الوضع الحالي، يبدو أن البرنامج السياسي في السنوات العشر الأخيرة يتمحور حول "إقناع" الإسرائيليين بضرورة السلام، فإن اقتنع هؤلاء، فسوف ينتخبون حكومة" يسارية" سوف تكون أقرب إلى توقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ولإقناع الإسرائيليين، نشرت المنظمة إعلانات في صحف إسرائيلية عن مبادرة السلام العربية، وللتواصل بشكل مباشر مع الإسرائيليين أعطى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مقابلات عديدة لوسائل إعلام إسرائيلية أثارت غيرة الإعلام الفلسطيني الذي لا يلقى مثل هذا الترحيب، مع أن أغلب هذه المقابلات هي أقرب إلى جلسات تحقيق منها إلى مقابلاتٍ صحفية مع زعيم
من الصعب فهم هذا التيار الذي يسعى إلى "اختراق" المجتمع الإسرائيلي والمغزى من نشاطاته. هل يظن فعلا أنه يستطيع تغيير آراء الإسرائيليين، وأنماط تفكيرهم، عن طريق الإقناع؟ ألم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا للإسرائيلي أن يقتنع؟ فالأمن لهذا الإسرائيلي مستتب بجهد وتمويل فلسطيني وعربي ودولي، والاقتصاد الإسرائيلي ودخل الإسرائيلي ينموان بشكل متواصل. وبينما يستطيع الأخير الذهاب إلى أغلب الدول بدون تأشيرة للاستجمام والتسوق والعمل، يمكنه أيضا أن يسكن في بيت كبير في مستوطنةٍ في الضفة الغربية بسعر منخفض، وأن يتمتع بأفضل الخدمات. تدل كل المؤشرات على أن مصلحة الإسرائيلي هي أن يستمر الوضع القائم على ما هو عليه. ويبدو أن هذا ما لا يستطيع أو لا يريد بعض الفلسطينيين فهمه: أن الموضوع الفلسطيني ليس على بال الإسرائيلي العادي، فهو لا يكترث له، وإن اكترث، من الصعب إقناعه بالتنازل عن امتيازاته باعتباره عضوا في المجتمع المستعمِر، لأن هذه الامتيازات حقيقية وملموسة.
على مر التاريخ، لم يشهد العالم مجتمعا مستعمِرا تنازل عن الاستعمار طواعية، وعن "اقتناع". ليس من الواضح لماذا يظن بعضهم أن هذا سوف يحصل في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. ربما لعدم رؤيتهم إسرائيل حالة استعمارية، أو ربما لانعدام الأفق لديهم وتوجههم إلى الخيار الأسهل والأقل جهدا. كلا الاحتمالين هما تعبير عن حالة من الكسل السياسي والتقوقع الفكري الذي أصاب النخب السياسية الفلسطينية. وهو يعكس أيضا شبكات المصالح المستفيدة من الوضع الحالي، ومن الركض خلف السراب.
مقالات أخرى
26 يناير 2018
08 نوفمبر 2016