اليابان وشباب الديمقراطية الجدد

08 نوفمبر 2015
(طوكيو: دار كاوادي شوبو شينشا، 2015)
+ الخط -
شهدت اليابان هذا الصيف موجة عنيفة من التظاهرات والاحتجاجات الشعبيةلا مثيل لها منذ عقود. إذ خرج عشرات الآلاف إلى شوارع طوكيو وغيرها من المدن اليابانية، واجتمعوا أمام مبنى البرلمان ليعلنوا رفضهم للتشريعات الأمنية الجديدة، التي تهدف إلى تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وتوسيع نشاطات القوات اليابانية في الخارج، وذلك على خلفية ارتفاع التوتر بين اليابان والصين بسبب توسّع الصين العسكري في المنطقة وتصاعد التيار اليميني في اليابان.

على الرغم من أن الدستور الياباني الذي وضع بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ينص على تخلي اليابان عن الحرب كوسيلة لحل النزاعات الدولية، ولكن حكومة شينزو آبي الحالية أقرّت تفسيرًا جديدًا لهذا الدستور يمنح اليابان حق الدفاع الذاتي الجماعي. هذا التغيير التاريخي في تفسير الدستور أثار جدلًا كبيرًا في المجتمع الياباني، حيث ازدادت المخاوف من التشريعات الأمنية المبنية على هذا التفسير الجديد، خصوصًا بعد إشارة كثير من المتخصصين في دراسات الدستور إلى أن تلك التشريعات مخالفة لما ينص عليه الدستور الياباني. كما أصدرت مجموعة من الباحثين اليابانيين في شؤون الشرق الأوسط بيانًا تنتقد فيه تلك التشريعات، التي من شأنها أن تخل بعلاقات اليابان السلمية مع الدول في الشرق الأوسط بسبب توسيع نشاطات قواتها في المنطقة جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة.

وقد رافقت تلك الحركات الاحتجاجية ظاهرة جديدة، وهي ظهور جماعة الشباب المسماة "سيلدز" (Students Emergency Action for Liberal Democracy-s)، التي لعبت دورًا كبيرًا في تعبئة وتنظيم التظاهرات مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال، بالإضافة إلى أنها قادت المسيرات بهتافات مثيرة على إيقاع موسيقى الراب، حيث خرج طلاب الجامعات إلى شوارع اليابان في مقدمة صفوف المتظاهرين لأول مرة بعد النشاطات الطلابية التي اندلعت في الستينات والسبعينات في القرن الماضي. فما الذي دفعهم إلى العمل السياسي، على عكس التصوّر العام عن عدم المبالاة عند الشباب اليابانيين بالسياسة؟ هذا ما يوضحه كتاب "كيف تبدو الديمقراطية؟"، إذ يجري الكاتب المعروف غينيتشيرو تاكاهاشي حوارًا مع أعضاء سيلدز حول تجاربهم وأفكارهم، وصولًا إلى مفاهيم الدستورية والديمقراطية.

يشرح الطالب الجامعي آكي أوكودا، وهو قيادي في سيلدز، أن بدايته كانت عندما شارك في التظاهرات ضد المفاعلات النووية عام 2012، حين وصلت الحركات الاحتجاجية ضد سياسة الحكومة اليابانية حول تشغيل المفاعلات النووية ذروتها بعد كارثة فوكوشيما التي تعد أكبر كارثة نووية بعد تشيرنوبيل. ثم بدأ يجتمع مع شباب من جيله ليدرسوا ويناقشوا مشكلة المفاعلات النووية وغيرها من المشاكل الاجتماعية التي برزت بعد الزلزال الكبير الذي ضرب شرق اليابان في مارس/ آذار عام 2011. أما زميله يوشيآكي أوشيدا، طالب علم فلسفة، وهو مغني راب أيضًا، يقول "إن الفلسفة هي عملية تساؤل دائم، أما السياسة فهي قرار، ومن أجل تغيير العالم لا بد من التوازن بينهما، ومن هنا بدأت عملي في مجال السياسة".

وفي ما يتعلق بأهداف سيلدز، يؤكد هؤلاء الشباب أنهم لا يعارضون قانونًا معينًا فحسب، بل يعارضون سياسات الحكومة الحالية التي تنكر الحكم الدستوري ولا تؤمن بقيمة الديمقراطية، وهذا الموقف واضح في أداء الحكومة وأيضًا في مسودة الحزب الحاكم لتعديل الدستور التي تقلّل بدورها من شأن حقوق الإنسان وسيادة الشعب.

ومن المعروف أن النظام الديمقراطي قد استقر إلى حد كبير في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن تاكاهاشي يشير إلى أن الديمقراطية النيابية هي "مجرد شيء يشبه الديمقراطية المباشرة "، ومن هنا تأتي المفارقة بين سياسات الحكومة المنتخبة والرأي العام. والسؤال المطروح الآن، كيف يمكننا أن نسد هذه الفجوة بينهما؟ يجيب تاكاهاشي عن هذا بالقول: "إن هناك أشكالًا للديمقراطية وليس لها نموذج مكتمل، وعلينا أن نستمر في السعي من أجل اختيار شكل أفضل لديمقراطيتنا". أما مانا شيباتا، وهي قيادية أخرى في سيلدز، فترى أنه من الضروري أن نعيد تعريف الديمقراطية بصورة دائمة ونستردها إلى أيادي المواطنين. بينما يرى أوكودا بأن الديمقراطية الآن أصبحت تتواجد أمام مبنى البرلمان ولم يعد وجودها يقتصر على داخل البرلمان فقط.

يذكر بأن هذا الحوار جرى في ذروة الاحتجاجات ضد التشريعات الأمنية الجديدة التي أثارت جدلًا كبيرًا حول النظام الدستوري والديمقراطي على نطاق واسع شاركت فيه مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، وأصحاب اتجاهات فكرية من اليمينيين واليساريين كذلك، بحيث لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا المشهد في اليابان. إلا أن النقاش في البرلمان لم ينضج، وهرعت الحكومة إلى التصويت على القوانين، بالرغم من أن أغلبية الرأي العام كانت ضد هذه القوانين ولا تزال.

ومع ذلك يبدو أن شباب جماعة سيلدز لا يعرفون الإحباط أو اليأس، فها هو أوشيدا يصرح بأنهم لا يتمسكون ببقاء الحركة الاحتجاجية حتى الإنهاك، بل يفضّلون أن يعودوا إلى الاحتجاج كلما ظهرت قضية جديدة. وربما يتفق هذا الموقف مع الشعار الذي قاله الشاب أوكودا سابقا "لو انتهت الديمقراطية، فسنبدأها!".

(باحثة يابانية في الأدب العربي)
المساهمون