تحتاجُ الثقافة إلى أعمدة سياسيّة لكي تصبحَ ثقافة قويّة واثقة من نفسها، يزدهر فيها التفكير المستند إلى الحريّة والانفتاح على الأفكار والاختلافات.
لكن ماذا لو كانت الأعمدة السياسيّة الأساسيّة في العالم العربي من قبيل حكم القانون، والعدالة، وتساوي الفرص، والحريّة في التفكير والتّعبير، غير موجودة؟ وهذا هو الواقع. في هذه الحال تترنّح الثّقافة بين الأصالة التي يتمسّكُ بها البعض بجهدٍ كبير، وبقيّة المجتمع الذي لا يدركُ أهميّة أن يكون له عمقٌ ثقافيٌّ في النسيج المجتمعيّ، وتلك هي المشكلة.
مشاريع ثقافية عديدة حدثت في العالم العربيّ، منها ما هو مدهش وعظيم، ولكنّ هذه المشاريع ظلّت على الهامش في أغلب الأحيان، ولم تتغلغل قَطّ في الأنسجة المجتمعيّة العربيّة لتتمكّن فيما بعد من التحوّل إلى وعي سياسيّ نهضويّ. والمؤسف أنّ الحاصل هو العكس، إذ إنّ أفكاراً متطرفةً فيها الكثير من اللّاعقلانيّة والتشوّه الفكري والإنساني، غالباً باسم الدّينِ أو الأعراف، وجدَت طريقها إلى بعض المجتمعات العربيّة، وأصبحت هي العادة، وأيُّ نقاش خارجَها سيواجَهُ بالرّيبة، وأحياناً بالعنف.
بقي الفكرالحرّ حكراً على طبقات ودوائر ثقافيّة معينة
وبالطبع رأينا، وما زلنا نرى، كوارثَ بشرية فظيعة في العالم العربيّ ما هي إلّا نتيجة واضحة للاستهتار بالفكر، والركون إلى تركيبات مجتمعيّة وسياسيّة غير مؤهّلة ولا قادرة على دخول معترك الحياة الحديثة بثقة، بعيداً عن أنصاف الحُلول. باختصار، قَدَمٌ في الحديث، وأطراف أُخرى من الجسد في مستنقع التخلّف والجهل والعصبيّات.
إنّ الحداثة الثقافيّة ذات الوعي المدنيّ ليست بغريبة عن مجتمعاتنا. ففي أوائل القرن العشرين، عُلِّقَتْ آمال على العالم العربي، باعتبار أنّه في طريقه إلى الحرية والازدهار الثقافي، والتحرّر من الاستعمار (الذي فكّكه وأنهكه) والانفتاح والتجديد داخل مجتمعات مدنيّة تسودُها رحابة الفكر والعدالة الاجتماعية. كانت الأسئلة التي طرحها المفكّرون العرب آنذاك في صميم القضايا الفكرية لتقدّم العالم العربيّ، خصوصاً ما يتعلّق بأهميّة الماضي والتراث للحاضر، وكيف أنّ الحاضر أولى بما يستجيبُ له ولمتطلّباته.
الماضي مجرّد إلهام، أمّا الحاضر فهو واقع. ومن الطّبيعي أن يكونَ له نصيب الأسد من الاهتمام والجديّة والفهم وحُسنِ التعامل في إطارٍ مدنيّ قانونيّ فعّال. كلّ الأمم الّتي سارتْ قُدُماً، وتلك فكرة مركبة تحتاج إلى تفصيل، هي أممٌ أحدثت قطيعة جذريّة مع مجموعة أنماطٍ ومخلّفاتِ من الماضي. لنتذكّر هنا الصّين واليابان وأمم أوروبية كثيرة، كلّها أحدثت قطيعة مع جوانب عزيزة ومهمّة من ماضيها، ذلك من أجل الحاضر والمستقبل، وبالفعل تطوّرت وعلا شأنها، إلّا أمّتنا العربيّة. وفي هذا الصّدد نستذكرُ أفكاراً بنّاءةً لمحمد عبده وعلي عبد الرّازق وشكيب إرسلان، وآخرين كثر.
يستحق الأدب العربيّ بشقّيه الشعريّ والنثريّ الإشادة هنا، فقد خطا خطوات عظيمة في إطار نهضويّ، منفتحاً على الحياة الجديدة التي اتّسمَ بها القرن العشرون، من ناحية الاختراعات العلميّة الكبيرة والتكنولوجيا الهائلة والتطوّر الطبّي، وظهور المدارس الفكريَّة القويّة في العصر الحديث.
في مجال الشّعر، على سبيل المثال، نجح الشعراء العرب إلى حدٍّ كبير في السموّ باللغة العربية بصورة غير مسبوقة، إذ وضعوا العصر الحديث في إطار حيويّ بعد جمودٍ في فترة الدولة العثمانية نهاية القرن الخامس عشر. هذه النهضة الأدبية واضحة في العالم العربي، وهي التي حافظت على وحدة عربيّة في المخيّلة الجمعيّة تتخطى حدود الدولة القُطريّة التي رسمها الاستعمار، وكرّستها الطبقات الحاكمة عربياً بدعم خارجيّ وقُصر نظر كبير داخلياً. من هنا تهتَّك العالم العربيّ داخليّاً وخارجيّاً في المجال السياسيّ، ولكنّه بقيَ صامداً ثقافياً بدرجةٍ كبيرة.
عندما نذكر أسماءً مثل جبران خليل جبران وبدر شاكر السيّاب وقصيدته "أنشودة المطر"، ونجيب محفوظ ومحمود درويش، فعلى الرغم من تجذّر هؤلاء الشعراء والكتّاب في أوطانهم، إلّا أنّهم في الوقت نفسه شخصيّات عربية بما يتخطّى حدود البلدان أو الدّول التي أتوا منها. وعلى الرغم من الأفكار المستنيرة لكتّاب ومفكرين كثر، أمثال طه حسين، ومحمد عابد الجابري، وعزمي بشارة، وفاطمة المرنيسي، إلا أنّها بقيت حكراً على طبقات وفئات ودوائر ثقافيّة معينة.
هكذا لم يتحوّل الوعي الثقافيّ النهضويّ الجمعيّ، الذي أسّس له وما زال يناضلُ من أجله الكثير من المثقفين العرب، إلى وعي سياسيّ جمعيّ يستطيعُ من خلاله العرب التفكيرَ كأمّة واحدة، تجمعُها لغةٌ واحدةٌ وحضارة كبيرة وطموحات مشتركة، ولعلّ تلك علّة العلل.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن