الوطن... الصيادون والذئب

28 ديسمبر 2014
+ الخط -

بعد الرابع عشر من يناير/كانون الثاني، ذُكِرت لنا قصة ثلاثة إخوة، من حاضرة تونس وما جاورها وما تابعها، مختلفي التوجهات والرؤى والمنطلقات، اتفقوا يوماً من شهر أكتوبر/تشرين الأول على مواجهة الاستبداد بالوسائل السلمية، وبكل أساليب النضال، من أجل دحره، أو إدخاله الجحر، وبعد تشاور وتداول وأخذ وعطاء، سرّاً وعلناً، فيه من التنازل الكثير والتعاطي الإيجابي، من أجل الذهاب في المسار نفسه، وللهدف نفسه، كان الإجماع، الدفع بكل الطاقات الممكنة، للوقوف جماعة ضد المستبد، بطانته ومشاريعه، من غير اختلاس للنظر من ثقوب السلطة إلى مراكزها ونفوذها، فالسلطة تغري وتغوي، والمال أيضاً، ومن التاريخ نظر وعبر، ولهم في الأسخريوطي (باع معلمه بأرخص الأثمان، فخسر الاثنين) نموذجاً حاولوا، جاهدين، الابتعاد عنه، ولو أنّ فيهم ومنهم، من كانت تختانه نفسه وأنفسهم ، ليمدّ سلك الودّ السري مع النُطٌاق والمتكلمين باسم المستبد الجاهل. لكن، ولأنّ الثورة طلّت على حين غرّة، بعد تصحر خاله بعضهم موتاً وحسبه آخرون رخاءً، دفع كل منهم لوضع طاقته وعلاقاته على ذمة الشباب وخصوصاً بعد 13 يناير، حتّى تأخذ الثورة مسارها وتبلغ مداها، لكن الملل تسرّب، وخصوصاً أنّ لكلٍّ منهم توابع وزوابع، فمنهم من حسم الأمر بأن لا صلاح ولا إصلاح للفساد، وإن هذا النظام لا يصلِح ولا يُصلَح، وآخر أخذ العصا من بعد الوسط، لم يعط شرعية لنظام فاسد، لكنه لم يدفع بكل طاقته، حتى لا يتحمل العبء الأكبر إن أخفقت الثورة، علماً أن جراحه لم تندمل في ذلك الوقت، والثالث حاول أن يدخل يديه إلى المغارة، ويتواصل خلسة مع الاستبداد، ويمده ليلاً بحبل سري للنجاة، على أن يتعهّد الفساد بالإشراف على الانتقال السلمي للسلطة في 2014، مع علمه وخبرته أنّ الفساد ليس له دين ولا عهد ولا وعد (وهل كان يوماً للثعلب دين).
وذكر، أن الثالث، وبعدما اطمأن، من كتمان سره على إخوته، خصوصاً أن الثورة جرفت الرأس، ولم تبلغ شرايينه وعروقه ومنظوماته العجيبة، انتقل، أولاً، من التواصل السري إلى ممارسة المهنة، بل تعاطيها جهراً مع بقايا من شاركوا المستبد حفلاته، ومارس مهنة أخرى معها، هي أكل الرز بالفاكهة بنهم، في المعاقل والساحات، في لعبة هي أقرب إلى التلهي والتشهِّي والتشفِّي والإتعاب منها إلى النضال والصراع والإنقاذ والإعداد. ولأن المهن الجديدة ممتعة، وتحتوي على كمِّ هائل من المعلقات الإشهارية الباهظة الثمن، كتصدير مكلف لصورة جديدة، ضماناً لصيرورة ولمستقبل، ولأن الكرسي مغر وجذّاب، انجذب الكائن السياسي الحركي الذي له رأس وقبعة، إليها انجذاباً، وعوض أن يخربش المغارة قبلا ويفتحها أكثر، أدخل رأسه فيها، والنتيجة أننا تحصلنا على جسم وقبعة من دون رأس، ومَثلُهم كمثل الذين ذُكرهم رسول حمزاتوف، في إحدى رواياته الرائعة عن الصيادين الثلاثة، وذلك أنه "عرف ثلاثة صيادين بوجود ذئب يختبئ في الوادي غير بعيد عن القرية فقرّروا اصطياده وقتله. سرت بين الناس روايات كثيرة مختلفة عن صيدهم الذئب.. حين طورد الذئب، اندسّ في مغارة، لينجو بنفسه من الصيادين، لم يكن للمغارة إلا مدخل واحد، وكان ضيّقاً جداً مثل مدخل السلطة، لا يستطيع أن ينفذ منه إلا الرأس وحده، اختبأ الصيادون وراء صخرة، وحوَلوا بنادقهم إلى مدخل المغارة، وأخذوا ينتظرون خروج الذئب من المغارة، لكن الذئب لم يكن غبيّاً على ما يبدو، فظلَّ بكل هدوء داخلها، يعني هذا أن الخاسر سيكون ذلك الذي سيملّ الهدوء والانتظار قبل غيره، وأدرك الملل أحد الصيادين، فقرّر أن يندس بأي شكل، في المغارة، ويطرد الذئب منها، فاقترب من الكوّة، ودسّ رأسه فيها، ظلّ الصيادان الآخران، فترة طويلة، يراقبان زميلهما مستغربين، لماذا لا يحاول التقدم، أو على الأقل، سحب رأسه، وأخيرا ملاَّ، هما أيضا، الانتظار، فاقتربا منه وهزّاه، فإذا هو من دون رأس.
فماذا حصل...؟
أخذ الصيادان يتساءلان: هل كان لزميلهما الصياد رأس، قبل أن يندسّ أم لا؟
أحدهما قال: إنه كان لديه على ما يبدو رأس.
قال الثاني: إنه لم يكن له على ما يبدو رأس.
قال الراوي ربّما، وقال القرّاء إنّه وعلى ما يبدو كان له ثلاثة رؤوس.
حمل الصيادان الجسم من دون رأس إلى القرية، وأخبرا أهلها بما جرى، قال أحد الشيوخ: نظراً لأنّ الصياد اندس، قاصداً الذئب، فإنّه لم يكن له رأس منذ أمد بعيد، وربما منذ ولادته.
وانطلقوا إلى زوجته المترمِّلة، يستوضحون الأمر، قالت: من أين لي أن أعرف إن كان لزوجي رأس، كل ما أذكره أنّه كان يوصي كل عام على قبعة جديدة.
ولما انتهى الكلام، وانصرف الناس يجوبون ربوع الوطن، وعلى الصورة التي يعرفها عليه الجميع، بمن فيهم الصياد، الذي لا ندري أبرأس دخل المغارة أم من دونه؟ وهل كان يوصي كل سنة على قبعة جديدة لأنّ له رأساً أم لأنه ليس له رأس؟ فكر الجميع، وفي اللحظة نفسها، واقتنعوا "الذي له رأس والذي ليس له رأس" بأنّ كل واحد منهم، فهم ومنذ صباه، أنّه أتى إلى هذا العالم، ليصبح ممثلاً لشعبه، بقبعة أو بدونها، برأس أو بدونه، وذكرهم الشيخ بأن على كلٍّ منهم، قبل أن يشهر الخنجر في وجه شعبه، ينبغي عليه أن يعرف أن حدّه قاطع، وأنّ أيّ إنسان في حاجة إلى عامين، ليتعلّم الكلام، وإلى ستين عاما ليتعلّم الصمت، وأنّ، في بعض الأحيان، الكلمة أحَدُّ من الخنجر، وأنّ الواقعية هي حين ندعو النسر نسراً، لا حينما ندعو الديك نسراً، وكذلك من الممكن أن يكون أيٌّ منَّا تقدميًّا، لكن من دون موهبة ورؤية، وأنّ العاقل يطلب من جاره أعواد ثقاب، لكي يضرم النار في موقده، أما الأحمق الجاهل الذي ليس له رأس، فهو يطلب من أصدقائه أعواداً ليضرم النار في القلب في الوطن، في الزيتون في النخيل في العنب، في القمح في الشعير، في الخبز في الخميرة، وقيل من قبل أن سمّ الأفعى يمكن أن يكون ترياقاً، إذا كان في أيد ماهرة، وعسل النحل يمكن أن يكون سمًّا، إذا كان في يدي أحمق.
وفي انصرافهم هذا، جاءهم طفل يسأل هل ضربتم يوماً، الذي ليس له رأس، قال بعضهم: نعم بالأحذية، وقال آخرون بالقبضة، فقال الطفل كان يجب أن تضربوه بالقفل، فقال آخر مازحاً، ضربناه بالصندوق، فسألهم الطفل: إذن، أين ضربتموه ومتى؟ فقهقهت الجماهير، وقالت، في الأماكن الرخوة من الذاكرة، وفي مكاتب الاقتراع، قال الطفل نعم، فرأسه هو المذنب الأكبر.
وفي فترة الانتقال، توجه الأطفال بالقول إلى الذين تاهوا مع الزمن، في زحمة أزقَّة الوطن، إلى المنهكين والمتعبين من الجري وراء قطعة جبن وربع خبزة وبعض تراب من شوارع الوطن، إلى الحالمين، كل ليلة، بالقمر، وبأن يصبحوا وقد عثروا على مساحة في الفضاء المعتم، إلى الكادحين والصامتين، الذين تشغلهم صناعة ساعة من حياة على حياكة كفن. إليكم، إلى أبنائكم، إخوانكم، أخواتكم، أصدقائكم وصديقاتكم، إليكم والى مهجكم، عليكم تطوير ذاتكم، وإبراز طاقاتكم وقدراتكم، والحرص على العمل، لأنّه معكم، وبكم يذاق شهد من أحلى وطن، أنتم الأمان والصمّام الذي يحمي من انحراف الزمن، بل أنتم القناديل التي تضيء دروب الأطفال  وكبيري السن.
أنتم الأمل، والعزم الإصرار والشجن، من بين أظافركم ينزُّ قطر الندى، ليسقي المجد على مهل، وعلى صدى نجواكم ينحسر الخوف، وعلى خطاكم يسير مستقبل الوطن. طاقاتكم كُبِّلت ودُجِّنَت من قبل. والآن، لم يعد أمامكم من سبيل إلا التحرّر والتحرير، لتجميع الطاقة، لأنّ البناء استحقاق، كما الشغل والغناء والعزف المنفرد. وإيّاكم والغفلة، فالسّلاطين دائما ما ينظرون الغفلة منكم، لكي يسرقوا الكراسي التي سلّمها الانتحاب لهم، ويضعوها على ذمّة الأبناء والأصهار والأقرباء والخدم، وسيجدون من يسهِّل لهم ويخدمهم، بالرأس أو بالذنب، بالقبعة أو بالعمامة، بالقفازات أو بالكفوف العارية، وعوض الدخول بمن معهم، من أبواب الوطن، دائما ما يحاولون إدخال الوطن، من ثقب الحداثة أو العائلة أو الشركات، علّهم بذلك يخلَّدون كمن كان مثلهم ومن قبلهم من أباطرة الدول.
إليكم، وإلى الذين لم يعد لهم رؤوس، والذين لهم رؤوس وليس لهم عقول، والذين لهم عقول ولا يسكنهم قلب الوطن، هذه لكم، علّكم تسترجعون وتعودون لتعزفوا ألحاناً يفرح الشعب بها يوماً، بعدما أراد الحياة والنماء.
القلب نفسه تستهدفه الرصاصة والوردة. والوجه نفسه تأتيه الضحكات والدموع. والشفاه نفسها تذوق السم والعسل. وفي السماء نفسها تطير الصقور والحمام. وفي العش نفسه، في الغيمة السوداء نفسها تنبثق النار والماء. وعلى المسمار نفسه، تعلق القيثارة والخنجر. والساحات نفسها فيها المعتصم والمتربع على الأرائك وآكل الرز. والتأسيسي نفسه فيه الرؤوس والفؤوس.
والتاريخ نفسه ذكرت فيه الحضارة والحظائر. دمتم سالمين من الذئاب.

avata
avata
عبد النبي العوني (تونس)
عبد النبي العوني (تونس)