27 يوليو 2020
الوصمة للعاق والجاحد... ولمن يبدو كذلك!
عاينت وعايشت وسمعت وقرأت عن حالات كثيرة لمرضى عقليين ونفسيين تظل أسرهم تتقلب على الجمر في أتون التعامل معهم لسنوات وسنوات، لكنها ترفض إيداعهم دور الرعاية أو المصحات المتخصصة فقط -وأؤكد فقط- مخافة الوصمة الاجتماعية التي تلتصق فورا بمن يفعل ذلك: وضع أباه في دار رعاية .. ألقى بأخته في مصحة عقلية.. "رمى" أمه عند الأغراب.. إخص ع الدنيا!
والحقيقة أن هذا الموضوع متشعب ومتعدد الجوانب كطبيعة المواضيع الاجتماعية دائما. تدخل فيه عوامل المقدرة المادية، والوعي، والحد الأدنى من الثقافة الطبية، وتوفر وسائط الرعاية البديلة الموثوقة، والبُعد الديني، ودرجة الارتباط العاطفي، والطاقة الجسدية وغيرها.
ومن المؤلم جدا أن نعاني كمجتمع من نقص مريع في كل ذلك، ثم نضيف له عمدا الوصم الاجتماعي المجحف الذي يعلق المشانق للناس "عاطل على باطل" بلا أية مراعاة لظروفهم الشخصية، ودرجات احتمالهم، واختياراتهم التي "ينبغي" أن تكون حرة.
تخيل معي سبعيني يعاني أمراض سنه من روماتيزم وخشونة مفاصل وضغط وسكر وفوقها عملية قلب مفتوح. هذا الضعيف عاش دهرا يراعي أختا عزباء تقاربه في العمر، مريضة بالذهان أو البارانويا مثلا، وتسوء حالتها عاما بعد عام، وتصبح معاشرتها خطرا نفسيا حقيقيا على زوجته وأولاده الشباب، بل وخطرا على سلامتهم وحياتهم نفسها باعتبار ما قد يعتريها من نوبات. وهو وزوجته الآن أصحاب صحة معتلة لا تتحمل رعايتها بحال. ومازال محجما عن إيداعها دارا لرعاية من في سنها وحالتها، بالرغم من قدرته المادية، مخافة أن يصمه الأقارب بالجحود و "ياكلوا وشه"! والموجع أن البؤس والنتيجة السلبية لذلك لا تطاله وحده، بل تطال الأخت المريضة نفسها، إذ تعاني شح الخدمة والرعاية المفترضة لحالتها فتتدهور باضطراد.
أو تخيل مريض ألزاهيمر مسن في مرحلة حادة من تطور هذا المرض الحزين، ويعجز من حوله من الزوجة والأبناء عن رعايته، لكنهم يعجزون أيضا عن إيداعه دارا متخصصة مخافة السمعة السيئة التي ستنسحب على أفراد الأسرة كلها. سمعة تقول إحدى بناته أنها قد تتسبب في تقليص فرصها في الزواج مثلا، فضلا عن هلهلة أواصرهم الأسرية الضعيفة أصلا. والنتيجة أن بؤس حال الرجل يغشى الأسرة بكاملها ويؤثر على الصحة النفسية لكل أفرادها. بؤس لا داعي منطقي له سوى العجز الكامل أمام ماكينة الوصم الاجتماعي إياها. تلك الغولة المرعبة التي تدور بين الناس موزعة يافطات "مجرم" و"عاق" و" آثم" بلا رحمة!
لا عاقل يدعو لقطع وشائج الأسرة، أو لرفع المسؤولية الإنسانية والأخلاقية لأفرادها تجاه بعضهم البعض، أو لنبذ المرضى والكبار والمعاقين بسبب حالاتهم. نحن مسلمون ومسيحيون نقدس أواصر الدم، ونحمل العائلة بين أضلعنا طول العمر لدواعي الحب والدين والثقافة الحميمية الغالبة التي تميز شعوبنا الشرقية كلها. لكن ما يجب النظر له بعين النقد وإعادة التقييم هو هذا التدخل المجحف من المجتمع في دقائق حياة الناس الشخصية. التدخل الذي يصدر الأحكام بلا رحمة ولا تقدير للظروف المتفاوتة. وكأن الملايين هم صور مستنسخة طبق الأصل لا يجوز لها أن تحيد أو تختلف. والذي بالتالي يدفعهم للعيش بأقنعة مزيفة لا تظهر معاناتهم ومآسيهم.. فتزداد هذه وتلك وتتفاقم وتتركهم في بؤس عضوي ونفسي يمزق نياط القلوب!
الدعوة هنا لبعض المساحات الشخصية.. لبعض الهواء الحر.. لبعض الانشغال عن الآخرين لا بهم.. أو حتى لبعض الرحمة بظروف البشر ومعاناتهم..
والأهم بصراحة.. الدعوة لبعض الوقت لإراحة "ماكينة الأحكام والوصم الهائلة" التي تعمل ليل نهار.. حتى لا تسخن يا أخي وتحترق! أو عساها تفعل والله فتريح وتستريح!
والحقيقة أن هذا الموضوع متشعب ومتعدد الجوانب كطبيعة المواضيع الاجتماعية دائما. تدخل فيه عوامل المقدرة المادية، والوعي، والحد الأدنى من الثقافة الطبية، وتوفر وسائط الرعاية البديلة الموثوقة، والبُعد الديني، ودرجة الارتباط العاطفي، والطاقة الجسدية وغيرها.
ومن المؤلم جدا أن نعاني كمجتمع من نقص مريع في كل ذلك، ثم نضيف له عمدا الوصم الاجتماعي المجحف الذي يعلق المشانق للناس "عاطل على باطل" بلا أية مراعاة لظروفهم الشخصية، ودرجات احتمالهم، واختياراتهم التي "ينبغي" أن تكون حرة.
تخيل معي سبعيني يعاني أمراض سنه من روماتيزم وخشونة مفاصل وضغط وسكر وفوقها عملية قلب مفتوح. هذا الضعيف عاش دهرا يراعي أختا عزباء تقاربه في العمر، مريضة بالذهان أو البارانويا مثلا، وتسوء حالتها عاما بعد عام، وتصبح معاشرتها خطرا نفسيا حقيقيا على زوجته وأولاده الشباب، بل وخطرا على سلامتهم وحياتهم نفسها باعتبار ما قد يعتريها من نوبات. وهو وزوجته الآن أصحاب صحة معتلة لا تتحمل رعايتها بحال. ومازال محجما عن إيداعها دارا لرعاية من في سنها وحالتها، بالرغم من قدرته المادية، مخافة أن يصمه الأقارب بالجحود و "ياكلوا وشه"! والموجع أن البؤس والنتيجة السلبية لذلك لا تطاله وحده، بل تطال الأخت المريضة نفسها، إذ تعاني شح الخدمة والرعاية المفترضة لحالتها فتتدهور باضطراد.
أو تخيل مريض ألزاهيمر مسن في مرحلة حادة من تطور هذا المرض الحزين، ويعجز من حوله من الزوجة والأبناء عن رعايته، لكنهم يعجزون أيضا عن إيداعه دارا متخصصة مخافة السمعة السيئة التي ستنسحب على أفراد الأسرة كلها. سمعة تقول إحدى بناته أنها قد تتسبب في تقليص فرصها في الزواج مثلا، فضلا عن هلهلة أواصرهم الأسرية الضعيفة أصلا. والنتيجة أن بؤس حال الرجل يغشى الأسرة بكاملها ويؤثر على الصحة النفسية لكل أفرادها. بؤس لا داعي منطقي له سوى العجز الكامل أمام ماكينة الوصم الاجتماعي إياها. تلك الغولة المرعبة التي تدور بين الناس موزعة يافطات "مجرم" و"عاق" و" آثم" بلا رحمة!
لا عاقل يدعو لقطع وشائج الأسرة، أو لرفع المسؤولية الإنسانية والأخلاقية لأفرادها تجاه بعضهم البعض، أو لنبذ المرضى والكبار والمعاقين بسبب حالاتهم. نحن مسلمون ومسيحيون نقدس أواصر الدم، ونحمل العائلة بين أضلعنا طول العمر لدواعي الحب والدين والثقافة الحميمية الغالبة التي تميز شعوبنا الشرقية كلها. لكن ما يجب النظر له بعين النقد وإعادة التقييم هو هذا التدخل المجحف من المجتمع في دقائق حياة الناس الشخصية. التدخل الذي يصدر الأحكام بلا رحمة ولا تقدير للظروف المتفاوتة. وكأن الملايين هم صور مستنسخة طبق الأصل لا يجوز لها أن تحيد أو تختلف. والذي بالتالي يدفعهم للعيش بأقنعة مزيفة لا تظهر معاناتهم ومآسيهم.. فتزداد هذه وتلك وتتفاقم وتتركهم في بؤس عضوي ونفسي يمزق نياط القلوب!
الدعوة هنا لبعض المساحات الشخصية.. لبعض الهواء الحر.. لبعض الانشغال عن الآخرين لا بهم.. أو حتى لبعض الرحمة بظروف البشر ومعاناتهم..
والأهم بصراحة.. الدعوة لبعض الوقت لإراحة "ماكينة الأحكام والوصم الهائلة" التي تعمل ليل نهار.. حتى لا تسخن يا أخي وتحترق! أو عساها تفعل والله فتريح وتستريح!