الهوية.. فاعل ومفعول به

16 ابريل 2015
+ الخط -

تحضر الهوية مفاهيمياً في مساحة الفعل اليومي، ممارسة وخطابا، وتعبر عن فهم البشر لذواتهم وما يحيط بهم، وكيف يلتقون مع الآخرين وكيف يتمايزون عنهم. ومن شبه الثوابت المتعلقة بباب الهوية أن الفرد، يحمل من هوّيات متعددة ومتداخلة، ما ينافي المصلحة كمحرك للفعل حينا، ويلتقي معها في مساحات أخرى.

ولا متسع للفرار من اعتبار الهوية شكلا سياسيا مبدئيا/أوليا، وكذلك لا يُنكر التقاؤها مع تحقيق مصالح متعلقة غالباً بالموقع في السلم الاجتماعي، لكن أبرز ما يسم الهوية من جدل، يرتبط بالتفريق بينها كمعطى نابع من الوعي وناجم عنه، أو أنها سابقة على الوعي ومرتبطة بالذات ووجودها.

بينما يكون التمايز بين الذات وغيرها، وبين كل مجموعة وغيرها من المجموعات البشرية أحد أبرز روافد صياغة الهوية ومغذياتها، لذلك كثيرا ما يقع توصيف الهوية تحت سطوة تحديد الآخر وسبر غور النقيض ومحاولة تحديده، وتزداد هذه المحاولات توخيا للدقة، كلما زاد التحدي المتعلق بتسمية الهوية أو تلمس مفرداتها.

ومما يحضر بقوة فرض الأمر الواقع أن الأشكال الجديدة للتعامل مع رأس المال والثروات، وتدفقها العابر للحدود القومية والجغرافية والثقافية، وكذلك عبر حدود الدول الحديثة، فرضت أشكالا وأنماطا جديدة لصياغة الهوية وتعريفها، وكذلك التعاطي معها وإدراكها، فأسهمت حركة رأس المال في تمييع كثير من الفوارق بين الجماعات، لكن، وفي الوقت عينه، عندما تزاوج هذا التدفق المعولم للمال مع استمرارية وجود القمع والاستبداد والتخلف في بنية الدولة وتعطيل حداثتها، كما في حالة المشرق العربي، فقد بقيت العوامل الفطرية والمفردات العضوية البدائية، مذهبية وطائفية وعرقية، حاضرة في ساحة تفاعل الهويات، وتضخمت الثنائيات من قبيل سني- شيعي، عربي- كردي، عربي- أمازيغي، مسيحي- مسلم، أكثري- أقلوي.. إلخ من أشكال بناء الثنائيات المرتبطة بالسمات العضوية للجماعة البشرية.

وفي هذا الصدد، يتوجب الإقرار بأن توافر حركة وطنية جامعة، في حقبة الاستعمار، شكّل أحد أهم عوامل تذويب حضور الثنائيات وفعلها السلبي في المشهد المجتمعي، وما يترتب عليه من انتكاسة لفكرة الدولة القومية الحديثة، ويحسب لحركة مناهضة الاستعمار خلال القرن العشرين، أنها في مرحلة من وجودها وفعلها أسهمت في إذابة الثنائيات الضيقة منطلقة للعام المشترك الأوسع، طبعا آخذة التقابل والتضاد مع الآخر الاستعماري في عين الاعتبار عند صياغة مفاهيمها. لكن وبعد حين من تمكّن كثير من هذه الحركات من تسلم زمام الدول التي حررتها من الاستعمار، بدأت تعاني تبعات القصور في صيانة والحفاظ على ديمومة العام المشترك الحداثي في خطابها وممارستها، مغلبةً مصلحة وحضور فئات وجماعات على أخرى، عبر عقود ليست بالقصيرة، وتحت وطأة ضغط سياسي واقتصادي فاقم من آثار تراكم هذا التمييز الذي لا يخلو من العنصرية السياسية والثقافية، والنظر إلى هذا المحدد، وشكل إدارة الدولة الناشئة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية، يمكّن من فهم أحد الجوانب الأساسية لانفجار ظاهرة الطائفية والتمترس العنصري إثر إغراق ثورات الشباب العربي بالضربات المضادة.

وفي جل التجارب التي تشهد حضورا طاغيا لأسئلة الهوية، نكون أمام حالة انعكاس للأزمات الاجتماعية البنيوية والمتصلة بشكل إدارة الدولة والفعل السياسي من ضمنها، فما الارتداد نحو البنى الاجتماعية العضوية السابقة للدولة الحديثة، إلا تعبير عن فشل عميم في تجربة هذه الدولة في أن تمثل حلا ونهجا متوافقا مع رؤية المجتمع لهويته ولمصالحه، وليس بالضرورة قصورا يتحمل المجتمع مسؤوليته.


راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk

المساهمون