08 يوليو 2019
الهوية الفلسطينية والأسرلة
يُلاحظ من يتابع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية للفلسطينيين، في فلسطين المحتلة عام 1948، تداخلاً بين اللغة العربية ولغة المحتل العبرية في التعامل اليومي. ويصل الأمر، كما يشير بعض المراقبين، إلى حدّ لجم العربية لصالح العبرية، واعتبار الأخيرة معياراً لـ "التقدم" الاجتماعي، والترقّي الوظيفي. ومن دون وعي، أو بقوة "القانون" والغلبة السياسية والاجتماعية للمحتل، يميل الخاضع للاحتلال، كما يقول ابن خلدون، إلى تقليد المحتل. لكن هذا لا يعني أن مقاومة الشعب الفلسطيني، في فلسطين المحتلة عام 1948، توقفت منذ نُكب باحتلال أرضه واستيطانها، بالعنف والتهجير، فما نلاحظه، أيضاً، من مقاومةٍ مدنيةٍ، متنوعة الأشكال، يؤكد أن الفلسطينيين لم يستسلموا للمحتل. بيد أن شعباً خاضعاً، بالقوة، لاحتلالٍ استيطاني، سيتأثر، بالوقائع التي يفرضها الاحتلال على الأرض. وهنا يبرز دور الهوية، باعتبارها حجر أساس نضال الشعوب، في مقاومة التذويب والمحو اللذيْن يمارسهما، بالعادة، الاحتلال الاستيطاني، فالهوية التي قد لا تكون موضع اهتمام، وإجماع، في الأمكنة التي لم تعرف احتلالاً طويل المدى، تصبح الرأسمال المعنوي للشعوب الخاضعة للاحتلال، فلا معنى للحديث عن الهوية، والتشديد عليها، إلا عند من يتعرّض للمحو والتذويب. هذا ما حدث في الجزائر، مثلاً، في فترة النضال ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، فقد كان الصراع على اللغة واحداً من أكثر الصراعات مرارةً بين الاحتلال الفرنسي والشعب الجزائري. ومن لم يكن يعرف العربية (من المثقفين الجزائريين) اعتبر الفرنسية "غنيمة حرب"، بيد أن هذا لم يحدث فلسطينياً، حتى الآن على الأقل، إذ لا أحد من المثقفين الفلسطينيين، تقريباً، اعتبر العبرية "سلاحاً" نضالياً في مواجهة اللسان المحتل، فلم نسمع شيئاً من هذه الدعاوى.
أكتب هذه الملاحظات عن بعد. فلم أزر فلسطين المحتلة عام 1948 غير أني أتابع، بقدر ما يُتاح لي، نقاشاتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، وألتقي مثقفين قادمين من هناك، في مناسبات ثقافية عربية وأوروبية، وأقرأ كتاباتٍ عن خطر الأسرلة، اللغوية، (أو ربما العبرنة) على اللغة القومية للشعب الفلسطيني الذي لا يزال يُحافظ، في صور مختلفة ومتفاوتة، على هويته، وفي صلبها اللغة. وقد يكون من المفيد ملاحظة أن الفلسطينيين الذين فرضت عليهم العبرية في المنهاج المدرسي وصارت، باعتبارها لسان "الأغلبية"، لغة الإدارة والاقتصاد والتعليم، وشطراً لا بأس به من الشؤون والمعاملات اليومية، لم تظهر بينهم حالة الالتحاق اللغوي، على الصعيد الأدبي، باللغة العبرية، لا غلبة ولا سلاحاً ضد خصم قومي، ولا "التأثير" على الرأي العام الإسرائيلي بلغته. هناك صحافيون وإعلاميون موجودون في الصحف والمؤسسات الإعلامية الإسرائيلية، غير أن ذلك أقرب إلى "الخيار الوظيفي" منه إلى أي دعاوى أخرى.
أما على الصعيد الأدبي، فهناك حالتان غادرتا الإجماع الفلسطيني على قصر العبرية على الحد الأدنى المطلوب من فلسطينيٍّ يعيش في "دولة إسرائيل"، وذهبتا إلى حد الكتابة الأدبية باللغة العبرية، هما أنطون شمّاس وسيد قشوع. قد يكون هناك كتاب وشعراء آخرون يكتبون بالعبرية، غير أنهم أقل أهمية، كما يبدو، من هذين الاسمين اللذيْن لفتا انتباه قارئ اللغة العبرية. لم يعد شمّاس إلى الكتابة باللغة العبرية (على الأقل لم ينشر بها) منذ روايته "آرابيسك" (1986)، فانتقل إلى التعليم الأكاديمي في أميركا، وصار يكتب باللغة الإنكليزية، فيما لم يتوقف قشوع، الصحافي في "هآرتس"، عن الكتابة بالعبرية. لم أقرأ تبريراً لهذين الكاتبين لِمَ استخدما العبرية في الكتابة وليس العربية. لكن، يمكن التوقف عن تصدير أنطون شمّاس روايته العبرية الوحيدة بقولة لبرنارد شو عن قدرة الطفل الذي يؤتى به إلى بلد غريب، على تعلم لغة هذا البلد بسرعة، ثم يضيف برنارد شو: حسن، أنا هذا الطفل!
يصعب القول إن هذا ينطبق على أنطون شمّاس، على الرغم من "تبنيه" مقولة برنارد شو، فهو لم يؤت به إلى "بلد غريب".. إلا إذا كان يقصد، بالطبع، "بلد الاحتلال" الذي أحلّ فيها لغته، المهجّنة، القادمة من وراء البحار، محل لغة البلاد التي احتلها لغوياً وبشرياً واقتصادياً وعسكرياً.. لكنه لم يحتل روحها. هذه وقفة "متنطِّعة" لظاهرةٍ تحتاج من هو أعلم مني بالتصدّي لها، ومقاماً يسمح باستفاضةٍ، ربما نقفها، مع أهل البلاد والخبرة، في "ضفة ثالثة".. قريباً.
أكتب هذه الملاحظات عن بعد. فلم أزر فلسطين المحتلة عام 1948 غير أني أتابع، بقدر ما يُتاح لي، نقاشاتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، وألتقي مثقفين قادمين من هناك، في مناسبات ثقافية عربية وأوروبية، وأقرأ كتاباتٍ عن خطر الأسرلة، اللغوية، (أو ربما العبرنة) على اللغة القومية للشعب الفلسطيني الذي لا يزال يُحافظ، في صور مختلفة ومتفاوتة، على هويته، وفي صلبها اللغة. وقد يكون من المفيد ملاحظة أن الفلسطينيين الذين فرضت عليهم العبرية في المنهاج المدرسي وصارت، باعتبارها لسان "الأغلبية"، لغة الإدارة والاقتصاد والتعليم، وشطراً لا بأس به من الشؤون والمعاملات اليومية، لم تظهر بينهم حالة الالتحاق اللغوي، على الصعيد الأدبي، باللغة العبرية، لا غلبة ولا سلاحاً ضد خصم قومي، ولا "التأثير" على الرأي العام الإسرائيلي بلغته. هناك صحافيون وإعلاميون موجودون في الصحف والمؤسسات الإعلامية الإسرائيلية، غير أن ذلك أقرب إلى "الخيار الوظيفي" منه إلى أي دعاوى أخرى.
أما على الصعيد الأدبي، فهناك حالتان غادرتا الإجماع الفلسطيني على قصر العبرية على الحد الأدنى المطلوب من فلسطينيٍّ يعيش في "دولة إسرائيل"، وذهبتا إلى حد الكتابة الأدبية باللغة العبرية، هما أنطون شمّاس وسيد قشوع. قد يكون هناك كتاب وشعراء آخرون يكتبون بالعبرية، غير أنهم أقل أهمية، كما يبدو، من هذين الاسمين اللذيْن لفتا انتباه قارئ اللغة العبرية. لم يعد شمّاس إلى الكتابة باللغة العبرية (على الأقل لم ينشر بها) منذ روايته "آرابيسك" (1986)، فانتقل إلى التعليم الأكاديمي في أميركا، وصار يكتب باللغة الإنكليزية، فيما لم يتوقف قشوع، الصحافي في "هآرتس"، عن الكتابة بالعبرية. لم أقرأ تبريراً لهذين الكاتبين لِمَ استخدما العبرية في الكتابة وليس العربية. لكن، يمكن التوقف عن تصدير أنطون شمّاس روايته العبرية الوحيدة بقولة لبرنارد شو عن قدرة الطفل الذي يؤتى به إلى بلد غريب، على تعلم لغة هذا البلد بسرعة، ثم يضيف برنارد شو: حسن، أنا هذا الطفل!
يصعب القول إن هذا ينطبق على أنطون شمّاس، على الرغم من "تبنيه" مقولة برنارد شو، فهو لم يؤت به إلى "بلد غريب".. إلا إذا كان يقصد، بالطبع، "بلد الاحتلال" الذي أحلّ فيها لغته، المهجّنة، القادمة من وراء البحار، محل لغة البلاد التي احتلها لغوياً وبشرياً واقتصادياً وعسكرياً.. لكنه لم يحتل روحها. هذه وقفة "متنطِّعة" لظاهرةٍ تحتاج من هو أعلم مني بالتصدّي لها، ومقاماً يسمح باستفاضةٍ، ربما نقفها، مع أهل البلاد والخبرة، في "ضفة ثالثة".. قريباً.