31 أكتوبر 2024
النيل في مصر كريم
النيل في مصر في غاية الكرم. ولكن للأسف رئيسها يعدّ علينا "اللُّقم"، وكأنه يعايرنا بأعدادنا. حينما يمرض منّا غير محتاج، يحاول أن يغيظ فقراء مصر به، ويأخذه إلى مستشفيات قواته المسلحة، نكايةً في فقرنا بالطبع، وترحيبا بالأغنياء، وكأنه يغيظنا. بالطبع، أخذ دكتورة لميس جابر للعلاج عنده، لأن زوجها من الفقراء، ويعمل بالمعمار في 6 أكتوبر، ولا يتعايش من الفن ولم يكسب منه مليما، لأنه يعمل بنظرية الفن للفن، ويعطي أُجره القليل لفقراء العزب وعمال التراحيل وفقيراتهم، حاملا لهم البطاطس واللفت والجزر، كما كان يفعل فان جوج لنساء عمال الفحم في أطراف لندن. ولذا مرضت زوجته لميس حزنا عليه، وقصّت شعرها عليه، وباعته في السوق للملك، كي تنفق على الفنان يحيى الفخراني. ولذا يكرمها رئيس الجمهورية بالعلاج على حساب الدولة، بعدما باعت النحاس وكنكة القهوة، وحتى برّاد الشاي.
النيل في مصر في غاية الكرم والرؤساء مع الشعب في غاية البخل "بالنقط". نقاط للعيش ونقاط للزيت، وهدية العيد 20 جنيها "بحالهم". تأملوا الرئيس وهو يتكلم، وكأنها مقدمةٌ ضرورية، في كل مرة، للدخول على "عام الرمادة". بعدها يكون بساما في الفرقاطة بالزي وبالساعة والألماس وبكامل النياشين، ومع أهل الفن الأغنياء جدا، يكون في غاية السرور والأناقة: "محدش يقدر يهزّ مصر أبدا"، ويضحك للكاميرا بحبور، كما تفعل الطواويس والأسود وهي داخل العرين، وتسقط الطائرات على الرؤوس فناجين عنبر وورد، والكل في غناء مع العصافير. في الصباح التالي يضحك من غير سبب منطقي، ثم يهدأ الإيقاع، وتبدأ سيمفونية الفقر والحاجة والتكشير والوعد والوعيد وأغنية "نجيب منين؟"، تأليفا وتلحينا وتوزيعا.
المصري طيب والنيل أيضا كريم. نحن في مختبر نفسي من سنوات أربع (جوّعهم يصحّوا) (نعم تجلب النِّعم). علماء نفس ودين يعلنونها عالية (اضرب في المليان)، وشواذ ومهرجانات مموّلة وتحت راية الأمن ترفع الرايات، ولصوص يعلنون توبتهم أمام الكاميرات مساء، كي تؤكد للناس أن هذا الشعب من ذرية أباليس، وسرقات وفرقاطات وزهور وناس تدخل السجون، وناس تخرج منها ميتة في التسعين.
وعلى الرغم من الطائرات وسرقات الملايين وارتفاع الاحتياطي الدولاري في البنوك، يأتي صوت آخر، يأتي من الفقر، بل من "الفقر الدكر"، ويقول لك بصوت رخيم وهادئ، وقد شُحن بالانكسار والتوسل وقلة الحظ من السماء والأرض: "معنديش. لو عندي هديك" أو "ادفع البلد محتاجة منك".
سيرك ومراجيح وعيال تقتل كلابا، وكلاب ترقص مع عيال، ومشايخ يطالبون بهدم مزار الحسين، وشيعة في مصر يتبرّعون (وتضحك)، وسلف يخرجون يوميا مع وائل الإبراشي، وطباخون تحولوا إلى محللين سياسيين، ومحللون سياسيون تحولوا إلى طباخين، ومشايخ دين يأمرون الضباط (اضرب في المليان)، والضباط في صمت وأدب. مسرح معدّ بحنكة قُل، أو بهبل قل، أو بعبث قل.
وفي كل يوم حادثة من قطار إلى قطار، ومن أتوبيس إلى أوتوبيس، ومن ميكروباص إلى ميكروباص. وعلى الرغم من ذلك، النيل كريم، ولا تنقطع المهرجانات في مصر. في الصباح، ترى الناس مكدّسة أمام عربات المترو، وآلاف من الفقراء أمام "تكافل وكرامة". من أين أتى كل هؤلاء بحاجاتهم وعرجهم وعماهم وعصيهم؟ في المساء، ترى الجميع في فرح ساعات، لأن الأهلي هزم الزمالك، أو الزمالك هزم الأهلي من غير جمهور، ومرتضى منصور يشتم المدرب القومي، لأنه أكل لحمة راس، فيرد المدرب بمزيد من أكل لحمة الراس، ويشترك في إعلان ياكل فيه أيضا لحمة راس، فيضحك مرتضى واعدا إياه "براسين عجول" في العيد، بشرط أن ينتصر الفريق ويدخل كأس العالم، ويكمل أحمد موسى له باقي الأمنيات "وندخل قطر"، فيصحح له الأمنيات مرتضى قائلا، "لا ندخلها إلا بعد الملك سلمان"، بعدها تنتقل الكاميرا إلى هز الوسط والتنافس الشديد ما بين فيفي عبده والليثي وصافينار، والنيل من خلفهم كريم ويجرى خجلا. فتتأكد بما لا يدعو إلى الشك أننا في تياتروهات روض الفرج في العشرينيات، ومحمود شكوكو يلقي بقفشةٍ عن القلقاس، أو يغني للب أو الحب وعضّة الكلب.
النيل في مصر في غاية الكرم والرؤساء مع الشعب في غاية البخل "بالنقط". نقاط للعيش ونقاط للزيت، وهدية العيد 20 جنيها "بحالهم". تأملوا الرئيس وهو يتكلم، وكأنها مقدمةٌ ضرورية، في كل مرة، للدخول على "عام الرمادة". بعدها يكون بساما في الفرقاطة بالزي وبالساعة والألماس وبكامل النياشين، ومع أهل الفن الأغنياء جدا، يكون في غاية السرور والأناقة: "محدش يقدر يهزّ مصر أبدا"، ويضحك للكاميرا بحبور، كما تفعل الطواويس والأسود وهي داخل العرين، وتسقط الطائرات على الرؤوس فناجين عنبر وورد، والكل في غناء مع العصافير. في الصباح التالي يضحك من غير سبب منطقي، ثم يهدأ الإيقاع، وتبدأ سيمفونية الفقر والحاجة والتكشير والوعد والوعيد وأغنية "نجيب منين؟"، تأليفا وتلحينا وتوزيعا.
المصري طيب والنيل أيضا كريم. نحن في مختبر نفسي من سنوات أربع (جوّعهم يصحّوا) (نعم تجلب النِّعم). علماء نفس ودين يعلنونها عالية (اضرب في المليان)، وشواذ ومهرجانات مموّلة وتحت راية الأمن ترفع الرايات، ولصوص يعلنون توبتهم أمام الكاميرات مساء، كي تؤكد للناس أن هذا الشعب من ذرية أباليس، وسرقات وفرقاطات وزهور وناس تدخل السجون، وناس تخرج منها ميتة في التسعين.
وعلى الرغم من الطائرات وسرقات الملايين وارتفاع الاحتياطي الدولاري في البنوك، يأتي صوت آخر، يأتي من الفقر، بل من "الفقر الدكر"، ويقول لك بصوت رخيم وهادئ، وقد شُحن بالانكسار والتوسل وقلة الحظ من السماء والأرض: "معنديش. لو عندي هديك" أو "ادفع البلد محتاجة منك".
سيرك ومراجيح وعيال تقتل كلابا، وكلاب ترقص مع عيال، ومشايخ يطالبون بهدم مزار الحسين، وشيعة في مصر يتبرّعون (وتضحك)، وسلف يخرجون يوميا مع وائل الإبراشي، وطباخون تحولوا إلى محللين سياسيين، ومحللون سياسيون تحولوا إلى طباخين، ومشايخ دين يأمرون الضباط (اضرب في المليان)، والضباط في صمت وأدب. مسرح معدّ بحنكة قُل، أو بهبل قل، أو بعبث قل.
وفي كل يوم حادثة من قطار إلى قطار، ومن أتوبيس إلى أوتوبيس، ومن ميكروباص إلى ميكروباص. وعلى الرغم من ذلك، النيل كريم، ولا تنقطع المهرجانات في مصر. في الصباح، ترى الناس مكدّسة أمام عربات المترو، وآلاف من الفقراء أمام "تكافل وكرامة". من أين أتى كل هؤلاء بحاجاتهم وعرجهم وعماهم وعصيهم؟ في المساء، ترى الجميع في فرح ساعات، لأن الأهلي هزم الزمالك، أو الزمالك هزم الأهلي من غير جمهور، ومرتضى منصور يشتم المدرب القومي، لأنه أكل لحمة راس، فيرد المدرب بمزيد من أكل لحمة الراس، ويشترك في إعلان ياكل فيه أيضا لحمة راس، فيضحك مرتضى واعدا إياه "براسين عجول" في العيد، بشرط أن ينتصر الفريق ويدخل كأس العالم، ويكمل أحمد موسى له باقي الأمنيات "وندخل قطر"، فيصحح له الأمنيات مرتضى قائلا، "لا ندخلها إلا بعد الملك سلمان"، بعدها تنتقل الكاميرا إلى هز الوسط والتنافس الشديد ما بين فيفي عبده والليثي وصافينار، والنيل من خلفهم كريم ويجرى خجلا. فتتأكد بما لا يدعو إلى الشك أننا في تياتروهات روض الفرج في العشرينيات، ومحمود شكوكو يلقي بقفشةٍ عن القلقاس، أو يغني للب أو الحب وعضّة الكلب.