النكبة وبشارة الخير

20 مايو 2018
+ الخط -
من حسن طالع أرنولد توينبي أنه لم يعش ليشهد الإخفاق الذريع لنظريته عن "التحدّي والاستجابة" في وطننا العربي، فقد مات الرجل في السبعينيات، ولربما لم يكن على درايةٍ بما حدث للاستجابة العربية على تحدّي النكبة الفلسطينية.
هل من مُبلغ توينبي في ضريحه أن العرب أنشأوا نظرية تاريخية مغايرة لنظريته، قوامها "الترحيب بالتحدّي"، بدليل أنهم، طوال قرن من عمر القضية، كانوا يزدادون انسحاقًا أمام المحتل، فواجهوا النكبة بالنكسة، ليخسروا النصف الآخر من فلسطين، ثم واجهوا الصلافة الصهيونية بمبادرات السلام، وأخيرًا بتأييد الحق الصهيوني على أرض فلسطين، ودعوة إسرائيل بالضرب على يد "المحتل الفلسطيني" الذي بلغت به "الوقاحة" حدّ الادعاء بأحقيته التاريخية على أرضه، وهذا تقوله تغريدات "عربية" بدأت تنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي أخيرا.
يا لها من "استجابة" عربية، يا توينبي، أنت الذي كنت مقتنعًا بأن التطور الإنساني، عبر التاريخ، لم يكن غير ردود فعلٍ على التحديات التي عصفت به، فكيف يمكن لك أن تفسر ردات الفعل العربية هذه التي لا يمكن أن تفسّرها نظريات علوم الاجتماع برمتها، لأنها خارج نطاق سائر التفاسير. باختصار، لأن الأنظمة العربية التي تحكم خارج التاريخ لم تر في العدو الذي استوطن قلبها، تحدّيًا، بل "بشارة خير" هلّت على الجغرافيا العربية، وتستحقّ الاحتفاء والتبجيل، لا المقارعة والصد، بل أراهن أن هذا المحتل مثّل "استجابةً" لتضرّعات بعضهم؛ لأنه كان سببًا تشبثّوا به لفرض حالات الطوارئ، وسحق الحريات، وتأبيد عروشهم، بذريعة "مواجهة الخطر الصهيوني" .
على أنني لا أبرئ الفلسطيني نفسه من مسؤوليته عن النكبة وما تلاها من نكبات، وفي مقدمتها الثقة المفرطة التي محضها، وما يزال، للأنظمة العربية، على الرغم من كل الخوازيق التي ابتلي بها، بدليل أنه ما يزال يسأل، وهو يتخبّط بدمه على الحواجز، حتى اليوم: "أين العرب؟"، فالمسكين ما يزال واثقًا بأنهم سيهرعون، يومًا، لنجدته، من دون أن يدري، أن عربه منهمكون بقضايا "أكبر منه"، كما قال أحد المغرّدين السعوديين، وأبسطها مشروع نيوم، داعيًا الفلسطينيين إلى قلع شوكهم بأظافرهم، والحال أن هذا المغرّد كان على حق؛ لأنه يمثل "الشوك" الذي ينبغي أن يقلعه الفلسطينيون بأيديهم.
باختصار، لو أدرك الفلسطينيون، منذ عقود، أن نكبتهم لم تكن بوطنهم، بل بعربهم وربع أبناء جلدتهم، من أمثال قياداتهم الجاثمة على صدورهم اليوم، ومن أمثال العملاء الذين يملأون الشوارع.. لو كانوا أدركوا ذلك، لوضعوا أقدامهم على أول الطريق الصائب، المفضي إلى تحرير وطنهم. وحينها لن تتّجه الجموع الغزّية إلى خطوط التماس مع العدو الصهيوني، بل إلى خطوط مقابلة مع عدو غامض، زعم ذات نكبةٍ أنه سيكون ظهيرًا وسندًا للفلسطينيين حتى استعادة وطنهم وطرد المحتل منها.
من الآن، على تلك الحشود أن تتجه إلى معبر رفح المغلق في وجوههم هو الآخر، لتقتلع تلك الشوكة التي تُدمي أجسادها من نظام متواطئ مع المحتل بالحصار الخانق، وهدم الأنفاق، وإبادة روح المقاومة في أرواح الفلسطينيين، وزرع الإذعان والخضوع، والقبول بالأمر الواقع، وبالقدس عاصمة لإسرائيل.
ومن معبر رفح، على المتظاهرين الفلسطينيين أن يتجهوا إلى معابر أخرى على حدود دول الخليج التي يلعب بعضها أقذر الأدوار في تثبيت "الحق الصهيوني التاريخي" على أرض فلسطين، وفي عقد مشاريع اقتصادية عظمى مع المحتل سترى النور قريبًا، بعد أن ينطفئ النور في عيون الشعب الفلسطيني المقاوم، بالطبع.
في مراجعات النكبة، كلها، لن يجد الفلسطينيون نكبةً أشدّ هولًا من نكبتهم بالعرب، فهل يصوّبون التاريخ بأنفسهم، ويدركون من أين يبدأ النضال؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.