النقدُ نقدٌ لا شتمٌ ولا تمجيدٌ

22 مايو 2019
عادل إمام: لعنة المقدّسات (فيسبوك)
+ الخط -
إنْ يكتب أحدهم تعليقًا نقديًا عن شخصية بارزة في المشهد الفني، أو في أي مشهدٍ عام، يُشتَم ويُنعَتْ بأنه "مثقّف" يتعالى على الشخصية وأعمالها، وبأنّ له نظرة فوقيّة وتأفّفًا وتنمّرًا، وبأنْ لا شيء يُعجِبه، وبأنّ "مُخالفة" إجماعٍ ما مثلاً طريقه إلى إثبات ذاتٍ وحضور. تعليقٌ كهذا متأتٍّ من نقدٍ يريده صحّيًا وسليمًا، بينما الآخرون يعتبرونه (النقد) مسًّا بمحرّمات. استخدام تعبير "مثقّف" يأتي في سياق يسخر ممن يقرأ نقديًا تلك الشخصية وأعمالها، والقراءة النقدية مُتحرّرة من تفسيرٍ عربيّ خاطئ للنقد، يقول إنه (النقد) شتمٌ وتقريع، فالتفسير يُطالِب بأنْ يكون النقدُ "بنّاء" فقط، فهذه مهمّته، وعليه تبيان الإيجابيّ والجميل لا أكثر. 

هذان أمران منبثقان من مصدرٍ واحد: اتّهام صاحب القراءة النقدية بأنه "مثقّف" (إنْ يكن هذا اتّهامًا)، عند "تطاوله" (النقد ليس تطاولاً بل تفكيكًا وتحليلاً ونقاشًا، من دون حسابات جاهزة أو أحكام مسبقة أو نيات سيئة أو أهدافٍ دنيئة) على شخصية عامة، لها حضور قوي في وجدان جماهيري كبير؛ واعتبار النقد "بنّاء"، وإلا فهو شتمٌ وتقريع. مفردات كهذه تُترجَم عربيًا فتكشف، بترجمتها العربية تلك، تسطيحًا لمفاهيم، هي أرقى وأعمق وأوسع من اختزالاتٍ ساذجة كهذه. أما مصدر الأمرين، فواحدٌ: جهلٌ يدفع إلى انصياع أعمى لمنطقٍ يُحرِّم المسّ بمن يحتلّ مكانة ما في المشهد العام، وبمن له جماهيرية ما، وبمن يُصبح "أسطورة" ما، وهذه كلّها يُفترَض بها أن تخضع أصلاً لنقاشٍ، يتناول أسباب احتلال أحدهم مكانة ما، وكيفية حصوله على جماهيرية ما، وآلية جعله "أسطورة" ما.

الأميّة متفشيّة، وانعكاساتها تظهر في أكثر من تعبيرٍ، أحدها يتمثّل برفض أي مَسّ بالشخصية العامّة، المعصومة أعمالها عن كلّ خطأ أو وهنٍ أو خلل، بالنسبة إلى هؤلاء الرافضين. هناك تقديس وتمجيد لشخصياتٍ عامّة، إلى درجة الهوس بها. التهجّم على من يعتمد قراءة نقدية نهجًا في متابعة أحوال الشخصية واشتغالاتها، جزءٌ من رفض المسّ بقداسة الشخصية ومجدها الأرضيّ. التهجّم ينكشف في تعابير مختلفة، لن يكون إطلاق وصف "مثقّف" على كاتب القراءة أخطرها، فالخطورة كامنةٌ في أن مجتمعات عربية كثيرة ـ بما فيها بيروت، التي يُصرّ البعض على اعتبارها منارةَ شرقٍ وانفتاحٍ وتعدّدية رغم انهياراتها السريعة في المستويات كلّها، وفقدانها سماتٍ قديمة وكثيرة لها ـ تُقيم لتقديس شخصياتٍ، أيًا تكن تلك الشخصيات وأيًا تكن أفعالها، إجلالاً وتقديرًا لا مثيل لهما، بل هوسًا وانجذابًا وخضوعًا تعجز اللغة العربية عن وصفها. علمًا أن انتقادات جمّة تطاول شخصية ما، تنطلق من مواقف ونيّات وأحكامٍ مسبقة وجاهزة، سياسية أو اجتماعية أو طائفية، وهذا غير مختلف أبدًا عن الاتّهامات تلك.

هذا دليلٌ على غياب وعي معرفيّ، يُتيح لتلك المجتمعات، ولأبنائها، التحرّر من وطأة الجهل والخزعبلات والسذاجة. هناك عاملون في حقول الفن والأدب والصحافة يتفوّقون، أحيانًا، على أفرادٍ آخرين في تشبّثهم بتقديسٍ أو تمجيد، إذْ لن يتردّد هؤلاء عن القول إنْ من "ينتقد" (اقرأ يشتم أو يُقرِّع) شخصية عامّة يسعى إلى ظهور استعراضيّ، يُتيحه له شتم تلك الشخصية وتقريعها.
هؤلاء يتجاهلون، قصدًا أو بغير قصد، أنْ لا شتم ولا تقريع، بل نقاشًا يتحرّر من كلّ رقابة مسبقة، ومن كلّ أحكام ثابتة، ومن كلّ أهداف سيئة، ومن كلّ مسلّمات وثوابت جامدة. إذْ لن يُحافِظ أحدٌ، ممن يُعتَبر شخصية عامة لها مكانة ما وجماهيرية ما وأسطورية ما، على موقعه إنْ يُكرِّر ذاته في أعماله، وإنْ يقع في فخّ الاستسهال والبلادة، وإنْ يعجز عن ابتكار جديدٍ ومُثيرٍ ومحرِّض. هذا كلّه كافٍ لقراءة نقدية غير مكترثة بمكانة هذا الـ"أحد" وجماهيريته وأسطوريته. 

أنْ تقول قولاً نقديًا أو رأيًا شخصيًا يكونان سلبيّين عن فيروز أو عن أغنيةٍ لفيروز أو عن موقفٍ لفيروز، إنْ تُعلن فيروز ـ شخصيًا ومباشرةً وعلنًا ـ موقفًا ما، أو أنْ ترفض الاستماع إلى أغانيها، أو أنْ تقول استياءً من بثّ أغانيها طوال النهار، فهذا يعني، بالنسبة إلى هؤلاء، أنك "مثقّف" يريد "نقدًا" (اقرأ شتمًا وتقريعًا بحسب فهم هؤلاء) كي تُسلَّط أضواءٌ عليه فـ"يشتهر"، إذْ سيهاجمه كثيرون وسيكون له حضور، ولو مؤقّتا، في المشهد العام. وأنْ ترى في أعمال عادل إمام، في الأعوام الـ20 الأخيرة على الأقلّ، فراغًا وتسطيحًا وتكرارًا مُملاّ، فهذا يعني، بالنسبة إلى هؤلاء، أنك "مثقّف" يتعالى على قاماتٍ "رفيعة"، ممنوع أنْ يتعالى عليها إطلاقًا. هؤلاء أنفسهم غير راغبين البتّة في أي نقاشٍ حول أي موضوع يمسّ معبودتهم/ معبودهم، إذْ يكفيهم أنّ لهم من يعبُدون.

المشكلة الأخرى كامنةٌ في أن قائلي هذا يتغاضون عن مقاطع مختلفة من التعليق، تتعامل مع الشخصية وأعمالها بهدوء ورويّة وواقعية، مُفنّدة إيجابيات أعمالٍ لها وفاصلة إياها عن سلبياتٍ فتُناقش الإيجابيات والسلبيات معًا، وغير متغاضية عن أفعالٍ وإنتاجات حقّة؛ أو يؤكّدون جهلاً في قراءة التعليق، إذْ يكتفون بما يعتبرونه شتمًا وتقريعًا من دون التنبّه إلى أي شيء آخر.

هذه أحوالٌ عربيّة سائدة. مع هذا، يبقى للنقد حضوره الأهمّ من اتّهامات لن تُصيب إلا مُطلقيها.
المساهمون