النظر إلى الخوف من خارجه

04 يونيو 2015
كيف يعيش المرء في ظل هذا الخوف؟
+ الخط -
خلال فترة وجودي في دمشق بين عامي آذار 2011 وحزيران 2014، ثمة أسئلة طرحت نفسها عليّ بشكل يومي دون أن أجد إجابة لها: كيف يعيش المرء في ظل هذا الخوف؟ وكيف يستمر بالكتابة في ظله؟ بل كيف ينساه أحياناً؟ ولم ينسه؟ أو هل حقّاً ينساه؟

تلك أسئلة جاءت على وقع المعايشة والملامسة اليومية للخوف في ظل بلد يعيش ثورة ضد نظام استنفر كل خلاياه وأذرعه وأعينه لإعادة سلطة الخوف ومناخها بعد تمرد الشعب عليها، ما دفعه لاستخدام عنف مضاعف وأساليب جديدة بغية إخضاع "المندسين" الذين أدركوا أن خضوعهم يعني عيشهم في ظل هذا الخوف أبداً، فآثروا استمرار التمرد وعيش لحظات خوف قصوى آنية مهما حملت من جنون واحتمالات الموت على العيش، أبداً، في لحظة الخوف السلطوية.

في موازاة الشجاعة الهائلة التي أبداها الناشطون وهم يقاومون مخرز الاستبداد، كان الخوف ينمو ويفعل فعله في الروح والكتابة وطريقة الحياة والكتابة والتعبير أيضاً.


هذا ما أكتشفه، اليوم، على ضوء قراءة خوفي من خارجه بعد أن تحررت من داخلي المنفي فيه، حين كان اعتقال أحد الأصدقاء يخلخل دورة حياتك كلها لشعورك باقترابه منك، فيهلع القلب وتتعرّق الروح وتغيّر سكنك وطريقة حياتك، لتصبح، مشلولاً، عاجزاً عن التفكير والقراءة، فكيف بالكتابة التي تصبح تكرهها في هذه الحالة، فهي سبب في ما أنت عليه اليوم! ليشطح تفكيرك نحو مسارات مجنونة بفعل الخوف الذي يوقعك في العجز أياماً معدودات، تتقاذفك أفكار شتى: تبدأ من اتخاذ قرار مضحك بعدم الكتابة بعد اليوم إلى أن تعيش "حياة طبيعية" إن مر الأمر بسلام!

لكن، بعد أيام يستعيد المرء دورة حياته تدريجياً، يقل الخوف والحذر، تزداد مساحات الأمان النسبي أو الوهمي، تعود إلى منزلك، تقرأ، تحن إلى الكتابة، تعود..

العودة تعني لأي عاقل أن مسببات الخوف زالت. إلا أن ما يحصل حولك يبين أنه لم يُزل شيء، فالثورة مستمرة، وأنت مازلت تكتب، واحتمالات الاعتقال لم تزل قائمة، فأين ذهب الخوف إذن؟

طيلة وجودي في دمشق، كنت أبحث عن إجابة تساعدني على تفسير تلك التحولات، ولم أفلح إلى أن قرأت، اليوم، قولاً لطبيب أسنان ترك جامعته منذ عام 2012 والتحق بمدينة داريا ليغطي نقص الكوادر فيها، فعلق في الحصار حتى اللحظة، إذ يقول محمد: "لقد كنت في البداية من الأشخاص الذين يصابون بالدوار عند رؤية الدماء، ولم أكن، في الوقت نفسه، قادراً على ترك شخص يتألم دون مساعدة.


أذكر بأنني كنت أعالج طفلة فقدت أهلها وأصيبت بالشلل ذات مرة، لقد بكيت كثيراً يومها، لكنني، اليوم، لم أعد أتأثر كثيراً بسبب رؤيتي للكثير من الإصابات والمآسي، وأصبحت أحاول بكل طاقتي أن أنقذ المصابين دون الخوض في المشاعر".

هاهو يحيّد مشاعره لكي يتمكن من عيش حياته وإنقاذ الآخرين، إذ يغدو "التعلّم" و"التأقلّم" و"عدم التأثر" شرطاً للاستمرار في الحياة والقدرة على الفعل، فهل هذا ما كان يحصل لنا حين نظن أن الخوف غادرنا، إذ يغدو نسيانه أو تجاهله شرطاً أساسياً للعودة إلى العمل الذي هو نوع من مواجهة ضمنية معه، لأن ما تكتبه يستدعيه بالضرورة، لأنه سيزعج مسببي الخوف ومطلقيه!

إن مقاربة الأمر، اليوم، والنظر إلى الخوف من خارجه، تبيّن أنه يمكن التعامل معه بطريقة مغايرة وتأمله وتأمل ردود فعل الذات عليه في الداخل والخارج وقياس الفارق بينهما. في الداخل تكون أسير لعبته شئت أم أبيت. إنه موجود في اللاوعي، يتحكم بطريقة أو بأخرى في مسارك ورد فعلك وطريقة حياتك، بل حتى في نصك وفي ما تكتب! نعم هذا ما أكتشفه، اليوم، وأنا "حر" منه في المنفى.

إن التدقيق في نصوصك التي كتبتها في ظله بما كتبتها خارج حدوده، تبين أن العقل الموارب فعل فعله، فرغم أنك كنت تظن أنك تجاوزت كل الخطوط الحمراء في الداخل، تكتشف، رويداً رويداً، أن صوتك بات أعلى في الخارج وأن ثمة أشياء لم تكن تقاربها. تتذكر ذاتك حين كنت في الداخل وتسمع المنظرين من الخارج بصوتهم الجهوري مطالبين باستمرار الثورة حتى "آخر سوري". حينها كنت تقول ساخراً: "الحكي ما عليه جمرك". اليوم إذ يقول لك من بقي في الداخل كلاماً مغمزاً ملمزاً حول بعض التحولات، تتذكر عبارتك هذه وتشعر بخجل ما، وتسأل ذاتك: هل حقّاً تغيّرت؟ هل حقّاً أصبحت مثلهم؟ فتبدأ المحاكمة: هل كنت جباناً؟ هل كنت واعياً هذا؟ هل كنت زئبقياً؟ هل كنت مناوراً خشية الاعتقال؟

تعود إلى النصوص لتقرأ ذاتك على ضوئها أو ضوء خوفك الذي كان، فترى أن ما كتبته لم يكن مهادناً بل واضحاً في إشارته للاستبداد وضرورة رحيله، عدا عن كونك اعتقلت وتواريت أكثر من مرة خوفاً.. يقفز السؤال: هل تبرر لذاتك؟ تتأمل الأمر مرة أخرى من الجهة الأخرى، فترى أن ثمة أموراً لم تكن تقاربها فعلاً، فلم؟ هل هو الخوف؟ ولكنك قاربت أموراً تسبب المتاعب نفسها؟ فلم إذن؟

تأمل الأمر على ضوء الخوف، يبين أنه (مهما فعلت لكسره) يبقى ضاغطاً عليك وعلى طريقة تفكيرك ووعيك ونصك الذي يكاد يكون بطريقة كتابته ونوع مفرداته وطبيعة توتره، والكامن في لاوعيه، سيرة مكتوبة للخوف في ظل الاستبداد. فكل كتابة في ظل الاستبداد، تحمل في جوفها آثار الخوف، حتى يكاد يرشح منها، فهل من نقاد يقرأون النصوص على ضوء هذا؟

(سورية)

المساهمون