في الوقت الذي يتواصل فيه سقوط القتلى المدنيين في الغوطة الشرقية، بقصف النظام وروسيا، من دون أن تلوح بارقة أمل لهم، ولو عبر وصول قوافل أممية تحمل مواد إغاثية، إذ رفض النظام السوري وصول أي أغذية أو أدوية لنحو 90 ألف عائلة تعيش في الأقبية منذ 15 يوماً، فإن حرب الإبادة هناك تدخل مرحلة أشد قسوة على عشرات آلاف المدنيين، مع تصاعد حركة النزوح من البلدات التي باتت خط جبهة، إثر تقدم قوات النظام نحو عمق الغوطة التي تعمل القوات المهاجمة حالياً على تقطيع أوصالها، عبر شطرها إلى جزأين منفصلين، شمالي مركزه دوما، وجنوبي يضم بلدات ومدناً أشهرها عربين، وحمورية، وزملكا، وعين ترما، وجوبر.
وأعلن مسؤول أممي من جنيف، لوكالة "رويترز"، عدم تمكن الأمم المتحدة من إدخال قافلة مساعدات إغاثية إلى سكان الغوطة الشرقية. وقال "لن تتمكن القافلة المتجهة إلى الغوطة الشرقية من التحرك اليوم (أمس)"، مضيفاً أن طواقم الأمم المتحدة "ما زالت على أهبة الاستعداد لإيصال المساعدات المطلوبة بشدة، بمجرد أن تسمح الظروف". وهذا الأمر يعني فشل محاولة الأمم المتحدة في إدخال نحو 40 شاحنة تحمل مواد إغاثية، كانت قد جُهزت لدخول الغوطة الشرقية، غير أن النظام السوري منع ذلك. وأعلنت الأمم المتحدة، أمس، أنها تنوي إدخال مساعدات إلى الغوطة اليوم.
وكان مدير "يونيسف" في الشرق الأوسط، خيرت كابالاري، قد قال، منذ يومين، إن منظمته تأمل في إدخال القوافل الإغاثية بحلول أمس الأحد، مشيراً إلى أن "هناك مؤشراً من الحكومة السورية على السماح بقافلة مساعدات في الرابع من مارس/ آذار. ونأمل أن يتحول هذا المؤشر إلى التزام ملموس. نحن مستعدون للدخول"، في وقت كان يدور فيه الحديث عن أنه من المقرر أن يستفيد من هذه المساعدات 180 ألف مدني، من أصل نحو 400 ألف شخص محاصرين في الغوطة الشرقية. وقال منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية في سورية، بانوس مومسيس، إن تقارير أفادت بمقتل قرابة 600 شخص وإصابة أكثر من ألفين في هجمات جوية وبرية منذ 18 فبراير/ شباط الماضي. وأضاف، في بيان، "بدلاً من توقف (للقتال) مطلوب بشدة ما زلنا نرى مزيداً من القتال ومزيداً من الموت ومزيداً من التقارير المزعجة عن الجوع وقصف المستشفيات. إن هذا العقاب الجماعي للمدنيين غير مقبول بتاتاً". وذكر الإليزيه، في بيان، أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يشعران "بقلق عميق" إزاء استمرار العنف في الغوطة الشرقية، وطالبا، بعد اتصال هاتفي بينهما، بتنفيذ قرار وقف إطلاق النار في سورية بشكل كامل، والسماح لقوافل الأمم المتحدة بتقديم المساعدات للسكان الذين تضرروا بشدة في المنطقة. وطلب ماكرون، في اتصال هاتفي، من نظيره الإيراني، حسن روحاني، "ممارسة الضغوط الضرورية" على النظام السوري لوقف الهجمات على السكان في الغوطة الشرقية.
ويأتي منع النظام السوري إدخال المساعدات، في وقت تواصل قواته قصف الغوطة الشرقية، بدعم من الطيران الروسي. وسقط أمس الأحد قتلى جدد من المدنيين، بحسب الدفاع المدني في الغوطة الشرقية، الذي أكد مقتل عائلة كاملة حرقاً، وإصابة العديد من المدنيين بجروح، بينهم نساء وأطفال، من جراء قصف بتسع غارات جوية و10 براميل متفجرة على الأحياء السكنية في بلدة مسرابا، فيما أصيب العديد من المدنيين من جراء قصف مكثف بصواريخ "غراد" استهدف حمورية وسقبا وبيت سوى. إلى ذلك، أكد ناشطون في الغوطة الشرقية أنّ لا أحد من السكان المحاصرين غادر حتى الآن المنطقة عبر معبر "مخيم الوافدين"، الذي حددته روسيا ضمن هدنتها المزعومة، باستثناء عائلة باكستانية كانت تقيم في الغوطة منذ سنوات، وغادرت قبل ثلاثة أيام.
أما على صعيد المعارك، فقد حققت قوات النظام، خلال الأربعة وعشرين ساعة الماضية، تقدّماً هو الأكبر من نوعه، منذ بدء الحملة العسكرية على الغوطة، أواسط فبراير/ شباط الماضي. وتقدمت قوات النظام في جبهات شرق الغوطة الشرقية، وسيطرت منذ مساء السبت على بلدات وقرى وأراضٍ زراعية، كانت تعتبر خط دفاعٍ متقدماً لـ"جيش الإسلام" في جبهات شرق دوما، أهمها بلدات أوتايا والنشابية وحرزما، وقبل ذلك حوش الضواهرة. وقال المتحدث العسكري باسم "جيش الإسلام"، حمزة بيرقدار، إنّ مقاتلي المعارضة شنّوا عمليات خاطفة عدّة، خلال ليل السبت، "على مواقع قوات النظام التي تقدمت إليها في الجبهات الشرقية للغوطة، وتمكنوا من قتل أكثر من 150 عنصراً عن طريق الكمائن التي نصبت لهم". وأوضح أنّ "سياسة الأرض المحروقة على الجبهات الشرقية من الغوطة الشرقية الزراعية والمكشوفة، التي دمر النظام فيها كل شيء حتى الخنادق والدشم، اضطرت المقاتلين للتراجع عن حوش الضواهرة باتجاه الشيفونية وأوتايا. وبسبب الاستراتيجية التي يتبعها النظام، بمساندة روسية، ولكي لا يتم حصارنا على جبهة النشابية وحزرما ونكون لقمة سائغة اضطررنا أيضاً للانحياز عنها، وتجهيز خطط يكون من شأنها تثبيت الخطوط الدفاعية والهجوم. طبعاً هذا بعد أن عجز النظام على مدار أربعة أشهر عن تحقيق أي تقدم على الجبهات الشرقية من الغوطة الشرقية وتكبيده خسائر كبيرة جداً". وبسقوط هذه القرى والبلدات، وأخرى في جبهات المرج شرق وجنوب شرق الغوطة، تكون قوات النظام قد تقدمت في عمق الغوطة الشرقية، ووصلت إلى تخوم بلدتي بيت سوى ومسرابا وسط الغوطة، لتقترب نحو وصل مناطق سيطرتها الجديدة من الشرق مع نقاط سيطرتها من جهة غرب الغوطة، إذ لقوات النظام نقاط سيطرة على شكل لسان شمال عربين وجنوب حرستا، على بعد كيلومترات قليلة من مديرا المتاخمة لمسرابا. وفي حال تمكنت قوات النظام المتقدمة شرقاً من الوصول إلى نقاط سيطرتها غرباً، تكون قد شطرت فعلياً الغوطة الشرقية إلى قسمين، شمالي مركزه دوما والبلدات المحيطة بها، وجنوبي يحوي بلدات ومدناً أشهرها عربين، وسقبا، وكفربطنا، وصولاً إلى حي جوبر شرقي دمشق.
ورغم أن قوات النظام تحاول التقدم من جبهات أخرى غير نقاط المواجهة شرقي الغوطة، حيث تدور يومياً مواجهات مع فصائل غرفة عمليات "بأنهم ظلموا" على جبهة حرستا غربي الغوطة، إلا أن الثقل العسكري الأكبر لقوات النظام يتركز في جبهات شرق الغوطة، على اعتبار أنها جبهات مفتوحة تقع في أراضٍ زراعية مكشوفة، وهي ميدان حرب ترجح فيه كفة الجيوش النظامية. وذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، أمس الأحد، أن قوات النظام "سيطرت على أكثر من 25 في المائة من الغوطة الشرقية"، موضحاً أن "التقدم يعود إلى كون العمليات العسكرية تجري بشكل أساسي في مناطق زراعية، فضلاً عن التمهيد الجوي العنيف". وقد تجنبت قوات النظام، المدعومة روسياً في هذه المعركة، محاولة اقتحام الغوطة من محور زملكا- جوبر، أو حرستا، على اعتبار أن الفصائل العسكرية الموجودة هناك، أفشلت في السابق كل محاولات التقدم، كون ميدان المعارك هو في جبهات زملكا - جوبر، وحتى حرستا، ولكثرة وجود الأنفاق، مع كتل إسمنتية وأبنية كثيرة، ما يمنح الفصائل، التي تتبع تكتيكات حرب العصابات، أفضلية في المواجهة، خصوصاً أن مقاتلي الفصائل هم من أبناء تلك المناطق، ويعرفون كيفية التحرك فيها. ويؤكد ذلك فشل قوات النظام، خلال اليومين الماضيين، في إحراز تقدم على جبهات حرستا، فيما تقول فصائل المعارضة إنها أحرزت تقدماً خلال هجمات شنتها في منطقة مساكن الشرطة. وقالت غرفة عمليات "بأنهم ظلموا" أمس إن مقاتليها دمروا دبابتين وجرافة عسكرية خلال المواجهات الدائرة على جبهة حرستا.
من جهته، أشار المحلل العسكري، العميد أحمد رحال، إلى أن النظام وحلفاءه انتقلوا من مرحلة الإفراط بالقوة، بالطائرات الحربية والمروحيات وراجمات الصواريخ، إلى مرحلة "تقطيع الأوصال"، مضيفاً أن قوات النظام تضغط من المحورين الغربي والشرقي في مسعى واضح لفصل مدينتي دوما وحرستا. وأوضح رحال، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تقدم قوات النظام في بعض المناطق "لا يعني انهيار فصائل المعارضة السورية"، مضيفاً "تقوم فصائل المعارضة بتنفيذ هجمات معاكسة وتسترد ما خسرته"، لافتاً إلى أن الغوطة الشرقية محاصرة منذ سنوات عدة "ومن ثم فإن أسلحة الفصائل هي إما غنائم من قوات النظام أو تصنيع محلي". وأشار رحال إلى أن ترابط الجبهتين الداخلية والخارجية في الغوطة يلعب دوراً كبيراً في الصمود، معتبراً أن "فصائل الجيش السوري الحر انسحبت (من بعض المواقع) تحت الضغط الشعبي وليس بسبب هزيمة عسكرية، إذ كانت لديها قدرة عسكرية للمقاومة لمدة ستة أشهر"، موضحاً أن "الروس يطبقون في غوطة دمشق الشرقية ما سبق ونفذوه خلال التسعينيات من القرن الماضي في غروزني عاصمة الشيشان، لجهة اتباع سياسة الأرض المحروقة وتقطيع الأوصال".
من جانبه، رأى المحلل العسكري، العقيد مصطفى بكور، أن "ما يجري في الغوطة هو صورة مكررة لما حدث في العديد من المناطق سابقاً، مثل داريا وغيرها"، مشيراً، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن النظام وحلفاءه "يتبعون سياسة الأرض المحروقة وارتكاب المجازر بحق المدنيين الذين يعيشون منذ سنوات تحت الحصار". واعتبر أن فصائل الغوطة الشرقية، وفي مقدمتها "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، "تمتلك إمكانات كبيرة للصمود من خلال التحصينات والأنفاق والملاجئ التي تم تجهيزها لمثل هذه الأيام"، مضيفاً "كما تمتلك فصائل الغوطة تنظيماً جيداً من الناحية العسكرية يؤمن لها تماسكاً كبيراً على جبهات القتال". وأوضح بكور أن الخبرات العسكرية الموجودة في الغوطة الشرقية لدمشق "تعتبر من أفضل الخبرات في الجيش الحر"، مشيراً إلى أن "نقطة الضعف الوحيدة في الغوطة ربما تكون الحصار ووجود المدنيين بكثافة، الأمر الذي يستخدمه الروس والنظام للضغط على الثوار من خلال ارتكاب المجازر بحق هؤلاء المدنيين". وتفاقمت معاناة عشرات آلاف المدنيين في الغوطة الشرقية، الذين يعانون أساساً من فقدان المواد الغذائية والأدوية، ومقومات العيش الأساسية، ويقيمون منذ أسبوعين في أقبية المباني السكنية لتجنب الهلاك بالقصف المدفعي الكثيف والغارات العنيفة، إذ زادت حركة النزوح الداخلي من البلدات والقرى التي باتت الآن قريبة من المناطق التي تقدمت فيها قوات النظام مساء السبت. وكان آلاف المدنيين قد فرّوا من بلدات وقرى شرقي الغوطة، خلال الأيام الأربعة الماضية، نحو المناطق الأبعد عن جبهات القتال، لكنها تتعرض لغارات وقصف مدفعي يومي.