بسبب النحل كان على أحمد أن يبقى على تلك الوضعيّة أكثر من ساعة أمام نظرات أقرانه الشامتة. فقد قرّرت مدرّسة اللغة الفرنسية الشمطاء معاقبته، وأمرته بالوقوف على ساق واحدة، في مواجهة الجدار، رافعاً يديه إلى الأعلى، كما منعته من تحريك ساقيه أو إنزال يديه.
(2)
لم يكن الوقوف بتلك الطريقة أمراً سهلاً، فبعد دقائق قليلة بدأ أحمد يحسّ بألم حاد في ساقه اليمنى. وعندما حاول أن يبسط ركبته ويرفع ساقه قليلاً كي يريحها، تفطّنت المدرّسة إلى ذلك وسارعت بتسديد ضربة قوية بالعصا على مؤخرته جعلته يعود إلى وضعيّته الأولى رغم الألم الذي أصبح لا يحتمل.
(3)
ما زال أحمد يذكر جيداً ذلك الصباح: كان الطقس ربيعياً، وكان على بعد خطوات من المدرسة، عندما رأى حشداً من الناس متجمهرين أمام فيلا مسوّرة ذات حديقة بها أشجار ليمون وبرتقال. ورغم أن جرس الدخول الثاني والأخير إلى المدرسة قد رنّ، إلاّ أن إحساساً طاغياً بالفضول قد استبدّ بالفتى، وجعله يختلط بالحشد ليستطلع ما يحدث.
(4)
كان الحشد خليطاً غريباً من الكبار والصغار الذين ألهاهم الفضول عن شؤونهم وتعالى لغطهم. وعندما اقترب أحمد أكثر من الناس المتجمهرين ليستطلع الأمر، رأى سحابة من النحل تملأ المكان وتحدث دويّاً مخيفاً.
كان المشهد مثيراً للفضول، فلم يسبق له أبداً أن رأى مثل ذلك العدد من النحل. كما لم يسبق له أبدا أن سمع مثل ذلك الصوت المريع، إلى درجة أنّ الأمر قد بدا له أشبه بالكابوس.
(5)
حين اقترب أحمد أكثر، رأى رجلاً يتصارع مع سحابة كثيفة من النحل انقضّت عليه من كلّ الجهات ولسعته في وجهه وفي أجزاء جسمه المكشوفة حتى أدمته. كان الرجل المسكين يتخبّط بكامل قواه إلى أن أُغمي عليه.
كانت قوة خفية تشدّ الفتى إلى ذلك المشهد، ولم يستطع التخلّص من فضوله والالتحاق بالمدرسة إلا عندما وصلت سيارة الإسعاف وتمّ نقل المصاب إلى المستشفى. عندها فقط أدرك أحمد أنه قد ارتكب هفوة كبيرة.
(6)
مرّت أكثر من نصف ساعة على جرس الدخول والتحاق التلاميذ بفصولهم. كان من المؤكّد أن مدرّسة اللغة الفرنسية قد لاحظت عدم وجود أحمد وسجّلته في دفتر الغيابات، مما يعني أنه لا مفرّ من العقاب.
كانت تلك المدرّسة بالذات تكنّ لأحمد كرهاً شديداً دون سبب واضح. وكانت تترصّد هفواته وتبحث عن أبسط تعلّة لإلحاق الأذى به وإهانته أمام أقرانه. لن تكون المرة الأولى التي سيتعرّض فيها إلى عقابها القاسي وشماتتها، فقد جرت له معها عديد الحوادث المؤسفة منذ بداية السنة الدراسية.
(7)
الآن، وهو يقف على ساق واحدة في مواجهة الجدار ويداه مرفوعتان إلى الأعلى، دخل أحمد في حالة هستيرية تماماً. ولم يعد ير بوضوح ما يحدث أمام ناظريه. غير أن الصوت صار واضحاً أكثر فأكثر: دويّ نحل مخيف.
لقد بدأ الضجيج يعلو تدريجياً حتى طغى على ما سواه. عندها أنزل التلميذ يديه وساقه متحدّياً أوامر مدرّسته الغبيّة.
لم يكن الصوت فقط هو الذي أصبح واضحاً، وإنما صار أحمد أيضاً يرى بوضوح سحابة نحل تملأ المكان، وتنقضّ على المدرّسة وتلسعها من وجهها وكلّ أماكن جسمها المكشوفة، وهي تتخبّط وتصرخ من شدّة الألم إلى أن سقطت على الأرض بلا حراك.
(8)
كان أحمد، في الحقيقة، هو الذي وقع على الأرض مغشيّاً عليه، وكان كل جسده يرتجف وهو في وضع جنيني وأسنانه تصطكّ كمن يشعر بالبرد.
كانت المفاجأة كبيرة والمشهد غير معتاد بالنسبة إلى التلاميذ، إلى درجة أنهم أصيبوا بالذعر وغادروا الفصل وهم يتدافعون.
لقد نُقل أحمد يومها إلى المستشفى على متن سيارة إسعاف وبقينا في حالة ذهول.
(9)
بقينا أشهر طويلة في المدرسة نروي حكاية صديقنا مع النحل ومع مدرّسة اللغة الفرنسية وحالة الإغماء التي ألمّت به والتي لم نفهم سببها، وكنّا كلّما اقترب منّا نغيّر الموضوع تماماً أو نصمت في حضوره.
(10)
مرّت سنوات عديدة قبل أن نفهم أن ما حدث لصديقنا أحمد لم يكن إلا حالة صرع ألمّت به. ولا شكّ في أنّه هو نفسه لم ينس ذلك الكابوس إلى الآن.
* كاتب ومترجم من تونس