النبأ الحزين
لم يكن الرجل النزق الذي لم يعد لديه من يحبّه مريضا، بالمعنى الحرفي للكلمة، فنتائج التحاليل التي طلبها الطبيب معقولة إلى حدٍّ ما، وتتناسب مع سنوات عمره التي جاوزت الستين، باستثناء ارتفاع معدّل السكّر، ما اعتبره الطبيب أمرا مثيرا للقلق، إذا لم يتم التصدّي له بالحمية والرياضة والاسترخاء. فكر طويلا بما قاله الطبيب، وأخذ قرارا مبعثه الخوف، بتغيير نمط حياته بالكامل. بعد خروجه من العيادة، ألقى علبة السجائر الممتلئة في الحاوية، عاقدا العزم على هجرانها إلى الأبد. اكتسح روحه حزنٌ ثقيل، وهو الذي يعاني، منذ زمن، كآبة غامضة الأسباب، يحاول عدم الاعتراف بها، وادّعاء القوة والتماسك، والسيطرة على زمام حياته. لطالما كان شابا وسيما قوي الشخصية، يتمتع بحضور مميز، وكاريزما عالية تجعله محط الأنظار، محاطا بمجموعةٍ كبيرةٍ من الأصدقاء الذين يتطلعون إلى رفقته، ويفتخرون بصداقته.
أما النساء، فلطالما وجدنه رجلا ساحرا، وحاولت أكثر من واحدة الإيقاع به في شرك الزواج، غير أنه ظل فطنا لنواياهن، وماهرا في التخلص من أي امرأةٍ تُبدي تعلّقا به. لم يخدع أي واحدة منهن. كان واضحا في علاقاته النسائية، مصرّحا في كل مرة أنه لا يفكر في الزواج، حتى لو مات عشقا، لأن حريته واستقلاليته خط أحمر ممنوع تجاوزه. عاش سنوات طيش ومغامرات صبغت حياته الاجتماعية بالصخب والحيوية، حريصا دائما على مظهره من خلال ممارسة أنواع مختلفة من الرياضة، وارتداء أحدث صرعات الموضة.
ساعده وضعه المالي، بصفته وريثا لعائلة ثرية، ونجاحه في تولّي إدارة شركة العائلة بمهارة في اقتناء أفخم السيارات، وقضاء الإجازات في ربوع أوروبا. مضت سنوات طويلة من حياته في نجاح مهني واجتماعي متزايد، غير أن الكآبة بدأت في التسلل بخفة، وشرعت في غرز أنيابها الحادة في روحه، فقد الحماسة لكل شيء. لم تعد أسباب السعادة التي يملكها تعني له شيئا. كل شيء حوله بات مثيرا للضجر. ابتعد تدريجيا عن حلقات الأصدقاء. أهمل نفسه، أسرف في شرب الكحول والتدخين وتناول الطعام بشراهة، حتى زاد وزنه بشكل ملحوظ، واختفت ملامح الشاب الفتى الوسيم الذي كان. غرق في عزلته سنوات، غير راغب في لقاء أحد. استنكف عن حضور حفلات زفاف أصدقائه الذين تساقطوا تباعا. اختفت النساء اللواتي يئسن في النهاية من إمكانية إقناعه بالزواج، حتى تواصله مع أفراد العائلة صار في حدّه الأدنى.
لم يعد شخصا مرحا يثير البهجة من حوله، حتى أن أبناء أشقائه كانوا يسمونه العم النكد، الذي لا يضحك وجهه للرغيف السخن. أكلت الوحدة أيامه التي أصبحت طويلة مملّة، لا تنطوي على جديد، ظلت كلمات الطبيب المتوعدة ترنّ في أذنه: أنت على شفا خطوة من الانهيار. ما زلت صغيرا والحياة ما زالت أمامك. ضحك في سرّه، لأنه يشعر أن الحياة صارت خلفه. ما كان يثير رعبه حقا هو فكرة العجز والحاجة إلى معونة الآخرين في تسيير شؤون يومه. لذلك قرّر أن يتدارك الأمر بالتصدّي لهجوم الشيخوخة، بكل ما أوتى على قدرة على المقاومة. التحق بالنادي الرياضي من جديد. تخلص تدريجيا من عاداته الغذائية السيئة. حرم نفسه من الأطعمة الدسمة الشهية. صار يمشي مسافاتٍ طويلةً، واضعا سماعةً على أذنيه، تبث موسيقى كلاسيكية، تبعث على الهدوء والاسترخاء. وخيّل إليه أنه يملك القدرة والإرادة على إحداث تغييرٍ يعيد لحياته سيرتها الأولى من ألق وبهجة، غير أن العائلة أعلنت خبر موته وحيدا في بيته ذات مساء، من خلال بوست نشره الشقيق الأصغر عن النبأ الحزين، ويعرب فيه عن اعتذار العائلة عن تلقي العزاء، تنفيذا لتعليمات الحكومة، بسبب ظروف كورونا التي انتشرت من جديد، فيما كتب الطبيب الشرعي، في تقريره، إن سبب الوفاة التعرّض طويلا للوحدة الشديدة!