لم يفلت حاكم عربي من تخليق صورتين متناقضتين حوله، ومنها إخضاع جمال عبد الناصر لإسقاطات اللحظة المعاصرة من خلال توظيف رمزيته في خطابها السياسي، المناوئ أو المنحاز له، والمتتبع لتقييمه يلحظ رؤية مثالية أو عدمية أو منقوصة لدى الطرفين.
سنة 1956 تستحق دراسة معمّقة، إذ نواجه خلافاً حاداً بين من يعدّ تأميم قناة السويس انتصاراً ساحقاً يجبّ ما تقدّم من ذنب الرئيس المصري الراحل وما تأخّر، وبين من يراه هزيمة بالنظر إلى واقع المعركة على الأرض وما خلّفتها من خسائر عسكرية، وصولاً إلى وجهات نظر متأخرة ترى أن "تمصير" القناة بدأ قبل الحقبة الناصرية بسنوات.
في قراءة التاريخ، لا يحكم الباحثون المنصفون على واقعة بالنظر إلى نتائجها فقط، من دون التوقف على أسبابها والسياق العام الذي حدثت خلاله، وهنا يصبح مستغرباً اعتبار التأميم حدثاً مصرياً مستقلاً عن عالم كان يشهد انهياراً للقوتين الاستعماريتين الرئيسيتين: بريطانيا وفرنسا، وأن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كان يسعى لـ"ملء الفراغ" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
عبد الناصر كان واقعياً في مقاربته لما حصل، حيث تؤكد المصادر أنه ألقى محاضرة في "نادي الضباط"، عام 1948، عقب نكبة فلسطين، استعرض فيها إمكانيات بروز مصر دولياً في مرحلة استثنائية تسقط فيها دول كبرى وتصعد أخرى، موضحاً قدرة النظام المصري؛ أي نظام، على الاستفادة من توازن القوى من دون أن يُستقطب يميناً أو يساراً.
وعليه، يمكن فهم تأييد موسكو وواشنطن معاً لموقف القاهرة في عام 1956، خلال جلسة مجلس الأمن حينها، لكن عقل السلطة المصرية لم يستطع أن يتجاوز كسبه معركة سياسية بامتياز، كان يمكن أن تقوده إلى تطوير ونهضة تشمل البنى التحتية والفوقية في آن، بدلاً من تصديق أوهام تفوّق النظام وحتمية وصايته الكاملة على شعبه بهدف النهوض به.
وقع معارضو عبد الناصر، وفي مقدّمتهم الإسلاميون، في الفخ نفسه، عندما تعاملوا مع التأميم بوصفه حدثاً هامشياً، وبأن السلطة ستقع بأخطاء قاتلة تثبت بدورها صحة رأيهم، متناسين أن استبداد هذه السلطة وإلغاءها الآخر وتهميش المجتمع وقواه هي سمات تتشارك فيها جميع الأنظمة العربية ومعارضاتها، وأن التغيير يتطلّب بالضرورة الخروج من أحادية التفكير وانغلاقه.
استخدام خطاب الناصرية في الثقافة والفن لصالح أهواء سياسية بدأ مع السادات وأخذ أشكالاً متعددة بين "نقد" الإرث وبين محاولة الاستفادة منه لتغطية عورات السلطة بمستحضرات النوستالجيا.
تمنّى نجيب محفوظ في إحدى رواياته أن تقام النُصب للمدرّسين، لأن تماثيل الحكّام تُهدم عند اندلاع أول هبّة شعبية. لعلنا نتجاوز "تحطيم الأصنام" في الساحات العامة إلى امتلاك منهجية نقدية في العقول التي لا تزال أسيرة لها.