رغم أنها ظاهرة لم يكن لها امتداد زمني أو جغرافي كبير، إلا أن النازية تعدّ، على مستوى التناول الثقافي، من أبرز المواضيع التي يشتغل عليها المؤرخون والفنانون، وبالتالي من أكثر الظواهر التي يستهلكها الجمهور.
آلاف الكتب والأفلام والمسرحيات، وعدد لا يحصى من المحاضرات والنقاشات تناولت الحقبة النازية بالنقد غالباً، لكن استمرارية الاهتمام تشير إلى شيء من الافتتان.
ترى لماذا يحتفظ النازيون بمواقعهم في الذاكرة الجماعية للشعوب الغربية؟ إنه سؤال أستاذ التاريخ في جامعة كامبريدج البريطانية، ريتشارد إيفانس، في كتابه الأخير "الرايخ الثالث في التاريخ والذاكرة".
قليلة للغاية هي المراحل التاريخية التي ظلت ملهمةً للأعمال الفنية بالمقدار الذي صنعته النازية. في فرنسا، مثلاً، يتم تناول النازية أكثر بما يقدّر بمرّتين من أهم حدث سياسي في فرنسا، أي الثورة الفرنسية. ويمكن أن نجد العلاقة الكمية نفسها بين الأفلام الأميركية التي تتحدث عن ألمانيا النازية ونقارنها بالأعمال التي تتناول أهم مراحل التاريخ الأميركي، مثل حرب الاستقلال أو الحرب الأهلية.
لتفسير افتتان الفنانين بهذه الحقبة، يدعونا المؤرخ إلى جولة سينمائية. فعلى مدى 70 سنة، يتتبع إيفانس "التطوّر البطيء" لتمثُّل المخرجين للمسألة النازية، مركّزاً على ثلاثة مخرجين بارزين ومستغرباً مرورهم، هم أيضاً، من أروقة النازية.
ستيفن سبيليبرغ أصرّ على إخراج فيلم "قائمة شيندلر"، وهو المتخصص في أعمال الخيال العلمي. وكوينتين تارانتينو، الخبير في أفلام الإجرام والحركة، أخرج "أوغاد منحطّون". وبولانسكي أخرج فيلماً تاريخياً واحداً هو "عازفة البيانو"، يتحدث عن جرائم النازية في بولندا.
يرى إيفانس أن السنين القادمة لن تشهد خفوتاً في ظاهرة التناول السينمائي للمرحلة النازية، فقد ثبت لديه، من خلال مراجعته لوتيرة استدعاء هذا التاريخ، أنه بمرور الزمن تزايدَ الإنتاج. وفي التسعينات، حدثت طفرة مع تطوّر تكنولوجيات السينما وقنوات توزيعها. وقد أتاحت المسافة الزمنية للمنتجين درجة أعلى من توقع ميولات الجماهير. كما تراكمت أمام الكتّاب الأعمال التاريخية والشهادات الحية وكتابات المذكرات.
يعتبر الرايخ الثالث محور الاشتغال الرئيسي لبحوث ريتشارد إيفانس منذ سنوات. وقد ألّف ثلاثية حول الموضوع، ويعتبر من أفضل مفسري ظاهرة صعود النازية في ألمانيا بين الحربين.
هو أيضاً من القلائل الذين لا يقولون بتحميل النازية أوزار الحرب، إذ يعتبر أن الحرب كانت نتيجة لحالة من اختلال القيم على الصعيد الدولي وقتها، وأن النازية نتيجة لا سبباً.
يصبّ كل ذلك في إطار مشروع عام لإيفانس، الذي يرى أنه قد حان وقت تفكيك "الحرب العالمية الثانية" التي حاول النظام العالمي الجديد أن يجعل منها حدثاً محورياً في بناء الوعي الجديد للمعاصرين. وعي مشترك كان لا بد أن يوجّه العقول نحو مسارات معينة لبلوغ نقاط وصول محددة.
وهكذا يتضح السر وراء بقاء النازية جاذبة. إنها عملية مقصودة، ربما تشبه تكرار كابوس قديم كي لا يلتفت أحد إلى الكوابيس الراهنة.