24 أكتوبر 2024
الموقف الإسرائيلي من الاتفاق النووي الإيراني
منذ الكشف عن الجوانب السرية للبرنامج النووي الإيراني عام 2002، وإسرائيل توليه أهمية قصوى. وفي سياق سعيها إلى حشد جهود المجتمع الدولي لوقفه، ادعت أنّ المشروع النووي الإيراني يمثّل خطرًا على وجودها، وهددت مرارًا باستعمال القوة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وسيلة للضغط على المجتمع الدولي، للتحرك عسكريًا ضد إيران، أو على الأقل فرض مزيد من العقوبات عليها، وتعميق عزلتها الدولية.
وكان بنيامين نتنياهو من بين كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبين الأكثر تناولًا للمشروع النووي الإيراني، ومطالباته بوضع حد له، بيد أنّ نتنياهو، وخلافًا لمن سبقه من زعماء إسرائيليين، اختلف مع الإدارة الأميركية ورفض علنًا سياستها الهادفة إلى إيجاد حل سياسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي وتّر علاقات إسرائيل مع واشنطن بشكل غير معهود. إذ سعى نتنياهو إلى فرض رؤيته، المتمثلة بإزالة البنية التحتية للمشروع النووي الإيراني كليةً، إمّا بضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، تقوم بها الولايات المتحدة أساسًا، أو بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الخانقة على إيران، لإرغامها على تفكيك مجمل مشروعها النووي. لذلك، عارضت حكومة نتنياهو بشدة اتفاق جنيف التمهيدي الذي تمّ التوصل إليه في نوفمبر/تشرين ثاني 2013، واتفاق الإطار الذي أبرم في إبريل/نيسان من العام الجاري، واستتباعًا الاتفاق النهائي الذي تم التوصل إليه أخيرًا.
دوافع الموقف الإسرائيلي
لا بد عند محاولة فهم السياسة الإسرائيلية من الاتفاق النووي الإيراني الإشارة إلى وجود فوارق جوهرية بين دوافع الموقف الإسرائيلي من المشروع النووي الإيراني ودوافع مواقف بقية دول المنطقة. فإسرائيل قوة نووية بحكم الأمر الواقع. وبموجب التفاهم الذي تم التوصل إليه عام 1969 بين الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، ورئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها غولدا مئير، وافقت الولايات المتحدة على بقاء إسرائيل دولة نووية غير معلنة. وطبقًا لذلك الاتفاق، قبلت إسرائيل عدم الإعلان عن نفسها دولة نووية وعدم إجراء تجارب نووية، مقابل التزام الولايات المتحدة عدم الضغط عليها للانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، أو دفعها إلى الكشف عن منشآتها النووية، وفتحها أمام عمليات الرقابة الدولية.
ووفق كل المعطيات، تمتلك إسرائيل ترسانة كبيرة من القنابل النووية والهيدروجينية والنيوترنية، فضلًا عن وسائل إطلاقها من طائرات وصواريخ قادرة على الوصول إلى أهداف تبعد عنها آلاف الكيلومترات، ولها أيضًا قدرات ردع نووي، تتمثل في قدرتها على توجيه الضربة النووية الثانية بواسطة الغواصات التي زودتها بها ألمانيا في العقد الأخير، والتي بمقدورها تدمير المدن الإيرانية تدميرًا كاملًا. وهي تمتلك كذلك مركز قيادة وسيطرة محصنًا ومحميًا من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى لإدارة حرب نووية.
ومن غير المتوقع، والحال هذه، أن يمثّل المشروع النووي الإيراني خطرًا على وجود إسرائيل، حتى لو امتلكت إيران ترسانة من الأسلحة النووية، فالجهد الذي ما انفكت تبذله إسرائيل لإحباط المشروع النووي الإيراني لا يهدف إلى الدفاع عن وجودها، كما يدعي نتنياهو والقادة الإسرائيليون عمومًا، وإنما يسعى إلى الحفاظ على احتكار إسرائيل السلاح النووي في الشرق الأوسط، ومنع إيران، وأي دولة أخرى، من الحصول عليه. وقد بات احتكار إسرائيل السلاح النووي جزءًا من نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو أحد أهم العوامل المؤثّرة في تعزيز سياسة الاستقواء وبسط النفوذ والتوسع والعدوانية التي تتبعها إسرائيل في المنطقة، ويساهم في الحفاظ على مكانتها بصفتها أقوى دولة إقليمية في المنطقة.
رد فعل نتنياهو
اتسمت ردات فعل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزرائه بالتشدد في رفض الاتفاق النووي الإيراني، وبمجافاة الحقائق بخصوص آثاره السلبية على أمن إسرائيل، إلى الدرجة التي بدا فيها نتنياهو وكأنه يتحدث عن اتفاق آخر، إذ شرع فور الإعلان عن التوصل إلى اتفاق بشن حملة ضده، ادعى فيها أنّ الاتفاق "خطأ تاريخي"، وأنّ الدول العظمى "تجازف بمستقبلنا الجماعي"، وأنّ "العالم أصبح، بعد هذا الاتفاق، أكثر خطورة ممّا كان عليه بالأمس"، وأنّ الاتفاق يمكّن إيران من "امتلاك القدرة على إنتاج ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية". وأكد نتنياهو أنّ إسرائيل ليست طرفًا في هذا الاتفاق، وليست ملزمة به، و"ستستمر في الدفاع عن نفسها".
ولم يقبل نتنياهو تطمينات الرئيس أوباما في الحديث الهاتفي الذي تم بينهما، غداة الإعلان عن الاتفاق بأنّ بنود الاتفاق تغلق الباب بالكامل أمام إمكانية حصول إيران على سلاح نووي، ودعا إلى اجتماع طارئ للمجلس الوزاري السياسي – الأمني الذي قرر، بالإجماع، رفض الاتفاق، وأعلن أنّ إسرائيل غير ملزمة به. كما قرر المجلس شن حملة سياسية إعلامية تستهدف الرأي العام والنخب والقادة في أميركا وأوروبا، وتركّز على مخاطر الاتفاق النووي ضد إسرائيل والمنطقة والعالم، وتؤكد ليس فقط إمكانية أن تصبح إيران دولة نووية أو دولة حافة نووية بسبب هذا الاتفاق، وإنّما أيضًا أنّ الاتفاق يعزّز كثيرًا قوة إيران في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وكذلك في مجال إنتاج الأسلحة التقليدية المتطورة. وأوضح نتنياهو في الاجتماع أنه سيستمر في العمل بكل قوة ضد الاتفاق، وسيبذل كل جهده لإقناع ثلثي مجلس الشيوخ الأميركي بمعارضة الاتفاق، من أجل التغلب على فيتو الرئيس أوباما.
موقف المعارضة الإسرائيلية
رفضت أحزاب المعارضة الصهيونية بالمثل الاتفاق، ورأته سيئًا جدًّا، وانتقدت، في الوقت نفسه، نتنياهو لفشله في التصدي للمشروع النووي الإيراني، ولتوتيره العلاقات مع الإدارة الأميركية، الأمر الذي أثّر في مضمون الاتفاق. فقد صرح يتسحاك هيرتسوغ، رئيس حزب "المعسكر الصهيوني" وزعيم المعارضة، أنّ الاتفاق النووي سيئ ويهدد أمن إسرائيل. وقال إنه، وعلى الرغم من الخلافات مع نتنياهو بشأن إدارته الملف النووي، وبشأن خلافه مع الإدارة الأميركية، فإنه عند الحديث عن أمن إسرائيل، يقف المعسكر الصهيوني موحدًا، وبكل قوة، من أجل أمن إسرائيل، وعلى الحكومة والمعارضة، على السواء، مواجهة نتائج الاتفاق على المستويين، القريب والبعيد.
أما يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل" فقد انتقد بشدة نتنياهو، لفشله في التصدي للمشروع النووي الإيراني، وطالبه بالاستقالة، ودعا إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية، للبحث في أسباب فشل إسرائيل تحت قيادة نتنياهو في التصدي للمشروع النووي الإيراني. وأشار لبيد إلى ادعاء نتنياهو، طوال فترة حكمه، أنه هو فقط من في وسعه التصدي للمشروع النووي الإيراني، وقد كانت لديه ست سنوات متواصلة لمنع هذا الاتفاق، وكانت لديه إمكانية لضرب المنشآت النووية الإيرانية بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي، لكنه لم يفعل، ولم يقدّم أي بديل لمواجهة المشروع النووي الإيراني. ليس هذا فحسب، بل إنّ نتنياهو، وفق لبيد، أساء إساءة كبيرة إلى علاقات إسرائيل الخاصة مع الولايات المتحدة، وإلى علاقات إسرائيل مع معظم دول العالم، فباتت إسرائيل، بسبب سياسة نتنياهو تجاه الملف النووي الإيراني، أكثر عزلة على الصعيد الدولي.
موقف خبراء المؤسسة الأمنية
في مقابل شبه إجماع الأحزاب الصهيونية في موقفها الذي عدّ الاتفاق سيئًا، رأى خبراء عديدون شغل أغلبهم، في الماضي، مناصب عليا في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أنّ الاتفاق يمثّل الخيار الأفضل من بين الخيارات المطروحة، ويغلق بالفعل الباب أمام إيران في الحصول على سلاح نووي في السنوات المقبلة. وقد فضح هؤلاء بذلك مزايدات الأحزاب الصهيونية في الحكم والمعارضة ودوافعها السياسية، بمعنى غير الأمنية، لمعارضة الاتفاق.
فقد كتب رئيس وكالة الفضاء الإسرائيلية الجنرال (المتقاعد) يتسحاك بن يسرائيل، الحائز على جائزة إسرائيل للأمن، أنه استخلص بعد قراءته جيدًا أنّ الاتفاق يضمن لإسرائيل سنين عديدة من الهدوء النووي، ويزيل أحد أكبر التهديدات التي تستهدفها، إذ أنّ التهديد النووي الإيراني لم يعد قائمًا. وأكّد بن يسرائيل أنّ الرئيس أوباما محق في قوله إنّ الاتفاق يعزّز أمن إسرائيل من هذه الجهة، لكنه أضاف أنّ الأخطار والتحديات التي تواجهها إسرائيل من الاتفاق ليست في إمكانية امتلاك إيران السلاح النووي، وإنما في قدرات إيران غير النووية، والتي ستتعزز كثيرًا بعد هذا الاتفاق. أمّا عامي أيلون، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة الإسرائيلية (الشاباك)، والذي كان قبل ذلك رئيسًا لسلاح البحرية الإسرائيلية، فقد أكد، في تصريح له، أنّ هذا الاتفاق هو الخيار الأفضل من أي بديل آخر، وأفاد بأنّ وزراء أمن سابقين ورؤساء سابقين لأجهزة الأمن الإسرائيلي يشاطرونه هذا الرأي. وصرّح عوزي عيلام الذي شغل منصب رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية في السنوات 1976 – 1985، وشغل بعد ذلك عدة مناصب أمنية مهمة، في مقابلة مع راديو إسرائيل، إنّ الاتفاق النووي جيّد، لأنه يحكم إغلاق جميع الطرق أمام إيران للوصول إلى السلاح النووي. وانتقد أفنير كوهين، وهو أحد أهم الباحثين الإسرائيليين المختصين في السلاح النووي، موقف الحكومة وقادة الأحزاب الإسرائيلية بشأن الاتفاق، ووصف موقفها بالسخف وبمحاولة لعب دور الضحية. ورأى كوهين أنّ الاتفاق يمثّل حلًا وسطًا معقولًا وواقعيًا، وهو وإن كان يمنح إيران شرعية لمكانة نووية خاصة، تختلف عن مكانة الدول غير النووية الموقعة على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، إلّا أنّ إيران، وبخلاف ما يدعيه إسرائيليون كثيرون، يضيف كوهين، لن تكون دولة حافة نووية بالمعنى العلمي للكلمة، قبل مرور عقدين.
تداعيات على إسرائيل
يتفق الإسرائيليون، مؤيدين للاتفاق النووي أم معارضين له أم متحفظين منه، على أنّ هذا الاتفاق يدخل إيران والمنطقة في مرحلة جديدة، تحمل بين ثناياها تحديات وتهديدات لإسرائيل عليها الاستعداد لمواجهتها. فالاتفاق يضع حدًّا للعقوبات ضد إيران، وينهي عزلتها الدولية ويفتح أمامها مرحلة جديدة في علاقاتها الدولية والإقليمية، ما يقود إلى تعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وإلى تطوير مختلف صناعاتها العسكرية التقليدية، وخاصة تلك التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة. وسيعزّز ذلك مكانة إيران ودورها ونفوذها في المنطقة، وسينعكس ذلك أيضًا على قوة حلفائها في المنطقة من دول وميليشيات وفواعل لا-دولتية. إلى جانب ذلك، يمنح الاتفاق المشروع النووي الإيراني الشرعية الدولية، ويجعل من إيران أو يقرّبها من أن تصبح "دولة حافة نووية" بالمعنى العلمي للمصطلح، وإن لم يكن قبل مرور عقدين على الاتفاق. خلال هذه الفترة، سيكون صعباً على إسرائيل توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، لأنّ ذلك سيعدّ خرقًا للقرارات الدولية وللإجماع الدولي. وقد يفتح الاتفاق سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن تسعى دول أخرى في المنطقة للوصول إلى وضع إيران النووي، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا.
خاتمة
فشل نتنياهو في منع التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران بشأن مشروعها النووي، ومن المستبعد أن يتمكن من استمالة عدد كاف من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، لمعارضة الاتفاق النووي، والتغلب على فيتو الرئيس أوباما. ويبدو أنّ نتنياهو سيضطر، في نهاية الأمر، إلى التعايش مع الاتفاق والعمل، في الوقت نفسه، على الحصول على تعويضات من الإدارة الأميركية، بعد أن يقرّ الكونغرس الاتفاق في آخر سبتمبر/أيلول المقبل. وتسعى إسرائيل إلى الحصول على مزيد من الأسلحة النوعية الأميركية المتطورة التي تعزّز قدراتها لا سيما قدرات سلاحها الجوي. ويشمل ذلك طائرات V22 المتطورة، والتي لم تحصل عليها إسرائيل بعد، وطائرات الشبح F35، وأنظمة رادارات متطورة، وأنظمة أسلحة تخترق التحصينات والملاجئ، وأسلحة نوعية أخرى، كانت أميركا قد رفضت في السابق منحها لإسرائيل.
إلى جانب ذلك، من المتوقع، أن تسعى إسرائيل إلى التوصل إلى اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة، يضمن استمرارها في الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري النوعي على جميع دول المنطقة، ويجدد التأكيد على الضمانات الأميركية بعدم الضغط على إسرائيل لفتح منشآتها النووية للرقابة الدولية، ويحدد بدقة الخطوات التي تعد خرقًا للاتفاق من إيران، ويتناول بدقة كيفية مواجهتها والرد عليها، فضلًا عن تعزيز التعاون الاستخباراتي بين الدولتين، لمتابعة المشروع النووي الإيراني والمشاريع النووية لدول أخرى في المنطقة، قد تتجه نحو تطوير مشاريعها النووية.
دوافع الموقف الإسرائيلي
لا بد عند محاولة فهم السياسة الإسرائيلية من الاتفاق النووي الإيراني الإشارة إلى وجود فوارق جوهرية بين دوافع الموقف الإسرائيلي من المشروع النووي الإيراني ودوافع مواقف بقية دول المنطقة. فإسرائيل قوة نووية بحكم الأمر الواقع. وبموجب التفاهم الذي تم التوصل إليه عام 1969 بين الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، ورئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها غولدا مئير، وافقت الولايات المتحدة على بقاء إسرائيل دولة نووية غير معلنة. وطبقًا لذلك الاتفاق، قبلت إسرائيل عدم الإعلان عن نفسها دولة نووية وعدم إجراء تجارب نووية، مقابل التزام الولايات المتحدة عدم الضغط عليها للانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، أو دفعها إلى الكشف عن منشآتها النووية، وفتحها أمام عمليات الرقابة الدولية.
ووفق كل المعطيات، تمتلك إسرائيل ترسانة كبيرة من القنابل النووية والهيدروجينية والنيوترنية، فضلًا عن وسائل إطلاقها من طائرات وصواريخ قادرة على الوصول إلى أهداف تبعد عنها آلاف الكيلومترات، ولها أيضًا قدرات ردع نووي، تتمثل في قدرتها على توجيه الضربة النووية الثانية بواسطة الغواصات التي زودتها بها ألمانيا في العقد الأخير، والتي بمقدورها تدمير المدن الإيرانية تدميرًا كاملًا. وهي تمتلك كذلك مركز قيادة وسيطرة محصنًا ومحميًا من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى لإدارة حرب نووية.
ومن غير المتوقع، والحال هذه، أن يمثّل المشروع النووي الإيراني خطرًا على وجود إسرائيل، حتى لو امتلكت إيران ترسانة من الأسلحة النووية، فالجهد الذي ما انفكت تبذله إسرائيل لإحباط المشروع النووي الإيراني لا يهدف إلى الدفاع عن وجودها، كما يدعي نتنياهو والقادة الإسرائيليون عمومًا، وإنما يسعى إلى الحفاظ على احتكار إسرائيل السلاح النووي في الشرق الأوسط، ومنع إيران، وأي دولة أخرى، من الحصول عليه. وقد بات احتكار إسرائيل السلاح النووي جزءًا من نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو أحد أهم العوامل المؤثّرة في تعزيز سياسة الاستقواء وبسط النفوذ والتوسع والعدوانية التي تتبعها إسرائيل في المنطقة، ويساهم في الحفاظ على مكانتها بصفتها أقوى دولة إقليمية في المنطقة.
رد فعل نتنياهو
اتسمت ردات فعل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزرائه بالتشدد في رفض الاتفاق النووي الإيراني، وبمجافاة الحقائق بخصوص آثاره السلبية على أمن إسرائيل، إلى الدرجة التي بدا فيها نتنياهو وكأنه يتحدث عن اتفاق آخر، إذ شرع فور الإعلان عن التوصل إلى اتفاق بشن حملة ضده، ادعى فيها أنّ الاتفاق "خطأ تاريخي"، وأنّ الدول العظمى "تجازف بمستقبلنا الجماعي"، وأنّ "العالم أصبح، بعد هذا الاتفاق، أكثر خطورة ممّا كان عليه بالأمس"، وأنّ الاتفاق يمكّن إيران من "امتلاك القدرة على إنتاج ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية". وأكد نتنياهو أنّ إسرائيل ليست طرفًا في هذا الاتفاق، وليست ملزمة به، و"ستستمر في الدفاع عن نفسها".
ولم يقبل نتنياهو تطمينات الرئيس أوباما في الحديث الهاتفي الذي تم بينهما، غداة الإعلان عن الاتفاق بأنّ بنود الاتفاق تغلق الباب بالكامل أمام إمكانية حصول إيران على سلاح نووي، ودعا إلى اجتماع طارئ للمجلس الوزاري السياسي – الأمني الذي قرر، بالإجماع، رفض الاتفاق، وأعلن أنّ إسرائيل غير ملزمة به. كما قرر المجلس شن حملة سياسية إعلامية تستهدف الرأي العام والنخب والقادة في أميركا وأوروبا، وتركّز على مخاطر الاتفاق النووي ضد إسرائيل والمنطقة والعالم، وتؤكد ليس فقط إمكانية أن تصبح إيران دولة نووية أو دولة حافة نووية بسبب هذا الاتفاق، وإنّما أيضًا أنّ الاتفاق يعزّز كثيرًا قوة إيران في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وكذلك في مجال إنتاج الأسلحة التقليدية المتطورة. وأوضح نتنياهو في الاجتماع أنه سيستمر في العمل بكل قوة ضد الاتفاق، وسيبذل كل جهده لإقناع ثلثي مجلس الشيوخ الأميركي بمعارضة الاتفاق، من أجل التغلب على فيتو الرئيس أوباما.
موقف المعارضة الإسرائيلية
رفضت أحزاب المعارضة الصهيونية بالمثل الاتفاق، ورأته سيئًا جدًّا، وانتقدت، في الوقت نفسه، نتنياهو لفشله في التصدي للمشروع النووي الإيراني، ولتوتيره العلاقات مع الإدارة الأميركية، الأمر الذي أثّر في مضمون الاتفاق. فقد صرح يتسحاك هيرتسوغ، رئيس حزب "المعسكر الصهيوني" وزعيم المعارضة، أنّ الاتفاق النووي سيئ ويهدد أمن إسرائيل. وقال إنه، وعلى الرغم من الخلافات مع نتنياهو بشأن إدارته الملف النووي، وبشأن خلافه مع الإدارة الأميركية، فإنه عند الحديث عن أمن إسرائيل، يقف المعسكر الصهيوني موحدًا، وبكل قوة، من أجل أمن إسرائيل، وعلى الحكومة والمعارضة، على السواء، مواجهة نتائج الاتفاق على المستويين، القريب والبعيد.
أما يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل" فقد انتقد بشدة نتنياهو، لفشله في التصدي للمشروع النووي الإيراني، وطالبه بالاستقالة، ودعا إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية، للبحث في أسباب فشل إسرائيل تحت قيادة نتنياهو في التصدي للمشروع النووي الإيراني. وأشار لبيد إلى ادعاء نتنياهو، طوال فترة حكمه، أنه هو فقط من في وسعه التصدي للمشروع النووي الإيراني، وقد كانت لديه ست سنوات متواصلة لمنع هذا الاتفاق، وكانت لديه إمكانية لضرب المنشآت النووية الإيرانية بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي، لكنه لم يفعل، ولم يقدّم أي بديل لمواجهة المشروع النووي الإيراني. ليس هذا فحسب، بل إنّ نتنياهو، وفق لبيد، أساء إساءة كبيرة إلى علاقات إسرائيل الخاصة مع الولايات المتحدة، وإلى علاقات إسرائيل مع معظم دول العالم، فباتت إسرائيل، بسبب سياسة نتنياهو تجاه الملف النووي الإيراني، أكثر عزلة على الصعيد الدولي.
موقف خبراء المؤسسة الأمنية
في مقابل شبه إجماع الأحزاب الصهيونية في موقفها الذي عدّ الاتفاق سيئًا، رأى خبراء عديدون شغل أغلبهم، في الماضي، مناصب عليا في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أنّ الاتفاق يمثّل الخيار الأفضل من بين الخيارات المطروحة، ويغلق بالفعل الباب أمام إيران في الحصول على سلاح نووي في السنوات المقبلة. وقد فضح هؤلاء بذلك مزايدات الأحزاب الصهيونية في الحكم والمعارضة ودوافعها السياسية، بمعنى غير الأمنية، لمعارضة الاتفاق.
فقد كتب رئيس وكالة الفضاء الإسرائيلية الجنرال (المتقاعد) يتسحاك بن يسرائيل، الحائز على جائزة إسرائيل للأمن، أنه استخلص بعد قراءته جيدًا أنّ الاتفاق يضمن لإسرائيل سنين عديدة من الهدوء النووي، ويزيل أحد أكبر التهديدات التي تستهدفها، إذ أنّ التهديد النووي الإيراني لم يعد قائمًا. وأكّد بن يسرائيل أنّ الرئيس أوباما محق في قوله إنّ الاتفاق يعزّز أمن إسرائيل من هذه الجهة، لكنه أضاف أنّ الأخطار والتحديات التي تواجهها إسرائيل من الاتفاق ليست في إمكانية امتلاك إيران السلاح النووي، وإنما في قدرات إيران غير النووية، والتي ستتعزز كثيرًا بعد هذا الاتفاق. أمّا عامي أيلون، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة الإسرائيلية (الشاباك)، والذي كان قبل ذلك رئيسًا لسلاح البحرية الإسرائيلية، فقد أكد، في تصريح له، أنّ هذا الاتفاق هو الخيار الأفضل من أي بديل آخر، وأفاد بأنّ وزراء أمن سابقين ورؤساء سابقين لأجهزة الأمن الإسرائيلي يشاطرونه هذا الرأي. وصرّح عوزي عيلام الذي شغل منصب رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية في السنوات 1976 – 1985، وشغل بعد ذلك عدة مناصب أمنية مهمة، في مقابلة مع راديو إسرائيل، إنّ الاتفاق النووي جيّد، لأنه يحكم إغلاق جميع الطرق أمام إيران للوصول إلى السلاح النووي. وانتقد أفنير كوهين، وهو أحد أهم الباحثين الإسرائيليين المختصين في السلاح النووي، موقف الحكومة وقادة الأحزاب الإسرائيلية بشأن الاتفاق، ووصف موقفها بالسخف وبمحاولة لعب دور الضحية. ورأى كوهين أنّ الاتفاق يمثّل حلًا وسطًا معقولًا وواقعيًا، وهو وإن كان يمنح إيران شرعية لمكانة نووية خاصة، تختلف عن مكانة الدول غير النووية الموقعة على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، إلّا أنّ إيران، وبخلاف ما يدعيه إسرائيليون كثيرون، يضيف كوهين، لن تكون دولة حافة نووية بالمعنى العلمي للكلمة، قبل مرور عقدين.
تداعيات على إسرائيل
يتفق الإسرائيليون، مؤيدين للاتفاق النووي أم معارضين له أم متحفظين منه، على أنّ هذا الاتفاق يدخل إيران والمنطقة في مرحلة جديدة، تحمل بين ثناياها تحديات وتهديدات لإسرائيل عليها الاستعداد لمواجهتها. فالاتفاق يضع حدًّا للعقوبات ضد إيران، وينهي عزلتها الدولية ويفتح أمامها مرحلة جديدة في علاقاتها الدولية والإقليمية، ما يقود إلى تعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وإلى تطوير مختلف صناعاتها العسكرية التقليدية، وخاصة تلك التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة. وسيعزّز ذلك مكانة إيران ودورها ونفوذها في المنطقة، وسينعكس ذلك أيضًا على قوة حلفائها في المنطقة من دول وميليشيات وفواعل لا-دولتية. إلى جانب ذلك، يمنح الاتفاق المشروع النووي الإيراني الشرعية الدولية، ويجعل من إيران أو يقرّبها من أن تصبح "دولة حافة نووية" بالمعنى العلمي للمصطلح، وإن لم يكن قبل مرور عقدين على الاتفاق. خلال هذه الفترة، سيكون صعباً على إسرائيل توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، لأنّ ذلك سيعدّ خرقًا للقرارات الدولية وللإجماع الدولي. وقد يفتح الاتفاق سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن تسعى دول أخرى في المنطقة للوصول إلى وضع إيران النووي، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا.
خاتمة
فشل نتنياهو في منع التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران بشأن مشروعها النووي، ومن المستبعد أن يتمكن من استمالة عدد كاف من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، لمعارضة الاتفاق النووي، والتغلب على فيتو الرئيس أوباما. ويبدو أنّ نتنياهو سيضطر، في نهاية الأمر، إلى التعايش مع الاتفاق والعمل، في الوقت نفسه، على الحصول على تعويضات من الإدارة الأميركية، بعد أن يقرّ الكونغرس الاتفاق في آخر سبتمبر/أيلول المقبل. وتسعى إسرائيل إلى الحصول على مزيد من الأسلحة النوعية الأميركية المتطورة التي تعزّز قدراتها لا سيما قدرات سلاحها الجوي. ويشمل ذلك طائرات V22 المتطورة، والتي لم تحصل عليها إسرائيل بعد، وطائرات الشبح F35، وأنظمة رادارات متطورة، وأنظمة أسلحة تخترق التحصينات والملاجئ، وأسلحة نوعية أخرى، كانت أميركا قد رفضت في السابق منحها لإسرائيل.
إلى جانب ذلك، من المتوقع، أن تسعى إسرائيل إلى التوصل إلى اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة، يضمن استمرارها في الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري النوعي على جميع دول المنطقة، ويجدد التأكيد على الضمانات الأميركية بعدم الضغط على إسرائيل لفتح منشآتها النووية للرقابة الدولية، ويحدد بدقة الخطوات التي تعد خرقًا للاتفاق من إيران، ويتناول بدقة كيفية مواجهتها والرد عليها، فضلًا عن تعزيز التعاون الاستخباراتي بين الدولتين، لمتابعة المشروع النووي الإيراني والمشاريع النووية لدول أخرى في المنطقة، قد تتجه نحو تطوير مشاريعها النووية.