19 سبتمبر 2022
الموصل.. بوصلة الأحداث في الشرق الأوسط
"ربما تخلينا عن البلاد العراقية كلها، لكني لا أفهم الحكمة من انسحابنا من الجزء الأهم الذي يبشر بالخير العميم، فولاية الموصل ذات موارد عظيمة، لأن فيها رواسب نفطية غنية، ولعلها أغنى الموارد في العالم... فماذا سيحصل لو خرجنا منها؟". لويد جورج (1863 - 1945م) رئيس الوزراء البريطاني في بيان في مجلس العموم البريطاني، قبل توقيع معاهدة أو اتفاقية سان ريمو في 25 مارس/ آذار 1920، رداً على الحملة البرلمانية المطالبة بجلاء بريطانيا عن العراق.
من يراقب تاريخ الموصل منذ ثلاثة قرون، وهي المدينة العراقية الثانية بعد بغداد، وعاصمة إقليم بلاد الجزيرة الفراتية، يجدها بوصلة حقيقية لكل مدارات الأحداث في الشرق الأوسط، فهي التي غيّرت مجريات تاريخه في حصار نادرشاه لها، وانتصارها على جيوشه عام 1743م، وهي التي ضمت قنصليات أوروبية عديدة إبّان القرن التاسع عشر، وانجذب العالم لها ضمن تغيّرات التاريخ، وهي التي كانت مثار قضية تاريخية باسم مشكلة الموصل في القرن العشرين، وقد حسم أمرها لصالح العراق، فساهمت، من خلال ثقافتها وأبنائها، في بناء العراق وقوته ومؤسساته العسكرية والمدنية. وتعيش اليوم محنة تاريخية في القرن الجديد، عندما وقعت أسيرة بأيدي أخطر منظمة إرهابية، وقد سحقت سياسياً وثقافياً وحضارياً، وبقيت وحدها صامدة، من دون أية حماية عراقية مركزية، أو لا مركزية عليها، فأين سيكون مصيرها، ليحسم بذلك مصير المنطقة برمتها، بسبب توسّط موقعها الجيوستراتيجي في قلب مربع الأزمات.
تبلور التحالفات الإقليمية برعاية دولية
نجحت تركيا الأردوغانية، حتى الآن، في الوقوف ضد اختراقات روسيا بإسقاط إحدى طائراتها، وأسكتت إعلامياً وسياسياً ما أثير حول ذلك، كونها أثارت "قضية" شغلت الرأي العام كله، بتحرك بعض قواتها البريّة نحو كردستان والموصل في شمال العراق، مستغلة الاتفاقات القديمة والتعهدات الجديدة مع الحكومة العراقية وحكومة كردستان، للتوغل نحو الموصل، وقد اتخذت من منطقة بعشيقة، شمال شرق الموصل (30 كلم)، معسكرات لها. ويبدو واضحاً أن "الخطوة" تأتي ضمن اتفاقات "تحالف" ضد الإرهاب، جرى التعاقد عليها بين تركيا وكردستان والسعودية، وبعلم حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة الأميركية، للوقوف إزاء تحالف آخر، يضم إيران وسورية والعراق، وبترتيب من روسيا الاتحادية. ويدعي كل من التحالفين أنه ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والإرهاب، ونجد الاتحاد الأوروبي يقف باستعداد تام إلى جانب تركيا التي نجحت في تعويم ما قامت به روسيا التي ادعت أنها ستقضي على داعش في غضون ثلاثة أسابيع! في حين أن السياسة الروسية بقيت تعلن عن دورها في حماية نظام الأسد في سورية. وحرب المصالح الميدانية ترافقها حروب إعلامية وسيكولوجية وسياسية بشعة، تمارسها مختلف الأطراف على حساب مجتمعاتنا قاطبة، ومصائر بلداننا القديمة. إن كلا من التحالفين الاثنين سيزيد من هوّة الانقسام الطائفي في العراق، إذ سيتخندق أغلب العراقيين بين خندقين اثنين، بعيداً عن وطنيتهم العراقية.
جذور مشكلة حسمت لصالح العراق
لا تعد خطوة الأتراك باتجاه الموصل مجرّد رسالة مزدوجة المعاني إلى روسيا وإيران معاً، بل لأن تركيا تمتلك تاريخ "مشكلة سياسية" قديمة مع العراق، بمطالبتها بولاية الموصل، وتعود المشكلة إلى العام 1925، عندما طالب أتاتورك بولاية الموصل (كانت تشمل ألوية الموصل
التدخل التركي
واليوم، وبعد أن بلغت علاقات العراق مع تركيا أوج قوتها من النواحي السياسية والاقتصادية، واحتواء تركيا نحو مليون من العراقيين المهجرين والمشرّدين واللاجئين، تتغيّر موجة العلاقات الثنائية، كما يقول أحد المراقبين، لكي يفتح العراقيون نيران إعلامياتهم الحكومية، وتحريض العراقيين ضد السياسة التركيّة التي لم يأت اختراقها الأرض العراقية أول مرة. ويتابع أنه حدث مرات منذ أيام النظام السابق ضمن اتفاقيات سرية ثنائية، وإن رئيسي الحكومة العراقية السابق والحالي، نوري المالكي وحيدر العبادي، قد أكدا ترحيبهما بالمساعدات التركية علناً من دون أن يمنعا الأتراك اختراق التراب العراقي، واعتبار ذلك خدشاً بالشرف العراقي، بل يستند المسؤولون الأتراك في ذلك على موافقة بغداد، كما جاء على لسانهم. ولكن، يستغرب العراقي ابن الوطن من تصرّف الحكومة العراقية التي لم تمنع أبداً إيران من توغّل قواتها عبر الحدود العراقية، وسرقة بترول العراق من حقوله الحدودية، وقطع مياه الأنهر عن العراقيين، ولم نسمع تصريحاً عراقياً واحداً يدين الإيرانيين على أفعالهم في العراق (!)، كما لم نسمع تصريحا عراقياً واحداً يدين الأتراك على اتهامهم بالموقف من داعش، كما لم نسمع عن أيّة قوة عراقية تمنع تسلل الآلاف المؤلفة من الأفغان والشيشان وغيرهم إلى الأراضي العراقية.
ردود الفعل الفوضوية
تؤشر سياسة العراق الفوضوية اليوم، والتي يمثلها موقف حكومة حيدر العبادي، وكل المسؤولين العراقيين الآخرين، بشأن تحركات تركيا ومشروع أردوغان، إلى حالة من التفاهة
لو كان المسؤولون العراقيون الذين يتحصّنون في المنطقة الخضراء في بغداد حريصين على الموصل حقاً، لحاسبت الحكومة، منذ أكثر من عام، كل السياسيين والعسكريين العراقيين المسؤولين عن سقوط الموصل بأيدي داعش يوم 10 يونيو/ حزيران 2014، وحاكمتهم. وعليه، فإن هؤلاء لا يبكون على الموصل ومصيرها، بل على تبلور تحالف إقليمي جديد يخالفونه، وهو يقف، اليوم، في مواجهة تحالف إقليمي آخر يناصرونه. ويبدو أن الفجيعة التاريخية التي تمثلها المحاصصات الطائفية في العراق انتقلت لتتمثّلها دول الشرق الأوسط وأقاليمه عامة.
سياسات عراقية مرتبكة
ليس في وسع المسؤولين العراقيين أن يلوموا الآخرين على سياساتهم إزاء العراق، بل ينبغي أن يلوموا أنفسهم على ما اتبعوه من سياسات ظالمة وشنيعة بحق العراقيين، وبحق الموصل
لماذا أربك القادة العراقيون، في تصريحاتهم وإعلامياتهم، الشارع العراقي، وأحدثوا هذه الفوضى السياسية، وصنعوا عدواً جديداً للعراق، من دون أن يعترفوا أبدا أنهم غير قادرين على ردعه أو إسكاته، فكيف يريدونه أن لا يتوغل في تراب العراق؟ ليس لديهم إلا الكلام وبيع الشعارات في سوق مليء بالحرامية والأفاقين والمشعوذين والدجالين، وهم ليس باستطاعتهم أن يفعلوا شيئاً، بجيش عراقي مهلهل، وبمليشيات لا ترتبط بهم، وخزينة منهكة جرّاء ممارسات النهب والاستلاب. ستشجع هذه التصرّفات الرسمية في العراق ليس الآخرين على جعل العراق جاذبا لهم، وساحة صراع من أجل مصالحهم، بل جعل العراقيين أنفسهم ينقسمون بين مرحّب بهذا وزاجر لذاك، وهذا ما ترجمته الحالات الإعلامية، وانشغل الناس كرّة أخرى بإطلاق الشتائم والسباب، وكأن العراق حالة وطنية موحدة، وهذا ليس صحيحاً أبداً، فالعراق بعد مصرعه لم يبق منه إلا جسد ينهشه كل العابرين.
مأساة الموصل إلى أين؟
فشلت سياسات العراق المنحازة لطرف دون آخر في حماية الموصل وتوابعها، وأبقت الموصل، بعد سقوطها، بأيدي الدواعش، وأبقت أكثر من مليون من أهلها، من داخل المدينة أو توابعها، بين مشرد ونازح ومهاجر ولاجئ. هي التي جعلت بعضهم مستعدين للتعاون، حتى مع الشيطان من أجل تحرير مدينته وأهله. ورفض أهل الموصل دخول أية مليشيات إلى كل من المدينة والإقليم دليل على تخوفاتهم من سوء الممارسات الطائفية، وخصوصاً أنهم كانوا قد عانوا من سياساتها الظالمة التي اتبعت طوال سنوات مضت، فضلا عن ممارسات التطهير الطائفي. ويبدو أن بعض العراقيين لا يشعر بها ولا بخطورتها أبداً، إذ يعتقد عن قصد أو جهل بأن العراق لون واحد، ودين واحد، ومجتمع واحد، وثقافة واحدة، وبيئة واحدة.
ينطلق المسؤولون العراقيين، في تصريحاتهم، من وجهة نظر سياسية قاصرة ومخجلة، يؤمنون بها، لكنها لا تمثّل أبداً إرادة كلّ الشعب العراقي، وهم يقدّمون أهدافهم الأيديولوجية على نزعتهم الوطنية، كما أنهم غير حياديين في تفضيلهم سياسات إيران على سياسات تركيا إزاء آخرين، يؤمنون بالعكس، بعيداً عن أي مبدأ وطني عراقي يجمع الاثنين. وعليه، لا تلوموا أي طرف خارجي في تدخلاته السافرة في العراق، بل لوموا أنفسكم، واعترفوا بأخطائكم وخطاياكم، فالكل يبحث عن مصالحه في العراق، والعراقيون لا يبحثون عن مصالحهم أبداً من قال وبلى. على المسؤولين العراقيين أن يكونوا آخر من يتكلمون عن حقوق الوطن، وعن الموصل بالذات، فقد كانوا، وما زالوا، مجموعة حاكمة خربت البلاد، وسحقت العباد، وأفقرت العراق، وفتحت الأبواب للجميع كي يستبيحوا العراق. وليعلم الجميع أن تركيا وإيران سوف لن تخرجا من العراق إلا بثمن باهظ جداً إن بقي هؤلاء الضعفاء يحكمون العراق، ويستهترون بمقدراته ومصير أهله.