الموت قهرا

26 ابريل 2018
+ الخط -
يموت الانسان قهرا عندما يقف عاجزا، لا يستطيع أن يستوعب ما يحدث حوله، ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه، لا بيده، ولا بلسانه، إذ مطلوب منه أن يرضخ وينفذ، لا لسبب، إلا أنه مقهور على التنفيذ، وممنوع من الصراخ والتأوه، بل ممنوع حتى من الضجر.
يموت الإنسان قهرا، عندما يفقد كل ما في يده، ولا يعرف أين يمضي في غده. وعندما تكون الضحية امرأة، تكون مصيبتها أكبر وعجزها أشمل، وتحملها أقل، فتموت قهرا وكمدا. هذا بالضبط ما حصل للمرأة في مدينة رفح، إذ جاءها أمر بإخلاء بيتها تمهيدا لهدمه.
وقف الضابط بمدرعاته وجنوده منتشيا منتفخا ينفذ أمرا لا يعرف حتى هو ما جدواه، ولماذا يهدم بيت أرملةٍ، ليس لها في الدنيا مكان يأويها مع أيتامها إلا هذا البيت. نظرت بعجز، إذ لا جدوى من أي كلام، فهي لا تستطيع أن تمتنع عن تنفيذ الأمر، ولا حتى الاعتراض، لأن ثمنها، كما قال لها الضابط المكلف، رصاصة، وكانت هي تعلم ذلك، فقد رأت بعينيها كثيرين دفعوا حياتهم لمجرد كلمات اعتراض أو حوقلة.
هي تعلم، لهذا أخذت تلملم أشياءها، وما تستطيع حمله، حالها يقول إنها لو استطاعت أن تحمل حجارة بيتها لفعلت، ولو استطاعت أن تصطحب مع أيتامها شجيرات زيتون، كانت وفيه لها لا تبخل بعطاء في الموعد، لفعلت.
جمعت أشياءها وهمّت بالمغادرة، فالتفتت لتطبع على جدران منزلها الذي هو جزء من كيانها وذكريات حياتها نظرة وداع، لكنها لم تستطع أن تفارق بيتها، ولم يحتمل قلبها، فتعلقت نظراتها الأخيرة بمنزلها، ولم تفارقه، فكان آخر ما رأت من الدنيا فخرت ميتة.
إنها شهيدة قهر، استعاذ منه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لكنها شاهدة على إجرام نظام وانعدام ضمير وخذلان شعب، فحملها أيتامها بعيدا مع بعض الملابس والأثاث، يرتجفون ويرقبون، ومضى الضابط الهمام في تنفيذ مهمته، فهدم البيت كما هدم روح صاحبته، ثم انصرف وقد أنجز مهمته وحقق نصره!
هدم الضابط المنزل من دون أن يلتفت إلى شيء، ومضت هي إلى بارئها تشكو ظلما، وتركتنا نعيش عجزنا، ونجتر مع كل فاجعة جديدة أخواتها السابقات، ونعيش هذا العار الكامل الذي تلبّس بالحاكم والمحكوم، ذهبت وتركت أيتامها، وإن كانت لم تدرك أنها تركت أمه يتيمة مقهورة، ومضت تشكو مظلمتها إلى الله الحق، تشكو من ظلم ومن تقاعس، وتركتنا نردّد: "نعوذ بك من غلبة الدين ومن قهر الرجال".
F15576CA-C027-4153-9AED-97B150E3B3AA
F15576CA-C027-4153-9AED-97B150E3B3AA
يحيى عقيل (مصر)
يحيى عقيل (مصر)