الموت غرقاً بعيداً عن بحر غزة
المشهد البحري الذي أخرجته الحرب الإسرائيلية، أخيراً، على غزة، بتفاصيله المفتوحة على تراجيديا من موت فلسطينيين غرقى في رحلة إلى المجهول، بعيداً عن غزة، ليس جديداً، لا على الفلسطينيين، ولا على شعوب العالم التي عانت من ويلات الحروب وانسداد الأمل، فقد شهد العالم، في منتصف السبعينيات، كارثة إنسانية بالغة الشقاء، فبعد الحرب الفيتنامية، نشأت مأساة الهجرة بالبحار بين عامي 1975و1979، والتي استمرت إلى أوائل التسعينيات، وقد اشتهر تعبير "بوت بيبول"، ليدل على مأساة حوالي مليونيّ فيتنامي، هربوا من بلادهم على متن قوارب الموت. وقدّرت المفوضية السامية للاجئين في الأمم المتحدة عدد الذين ماتوا في موجات الهجرة هذه بحوالي 400 ألف.
ولم يكن موت فلسطينيين من غزة في هجرتهم البحرية، قبل أيام، المأساة الأولى من هذا النوع، وإن اختلفت الظروف التي ساعدت أبناء وطنهم على النجاح في الوصول إلى بلاد الهجرة، فقد بدأ الفلسطينيون يركبون البحر، هرباً من ظروف الحرب في ظل دولة الخلافة العثمانية، وخصوصاً في بداية القرن العشرين، بعد أن فرضت الدولة العثمانية التجنيد الإجباري على رعاياها، لإقحامهم في حروبها المتعددة. وكان للمجاعات التي أصابت بلاد الشام والقمع والقتل الذي مارسه جمال باشا السفاح أثره في فرار آلاف الفلسطينيين إلى الأميركتين.
أما في السنوات الأخيرة، فقد دخل فلسطينيو المخيمات في لبنان، وخاصة فلسطينيو مخيم تل الزعتر، إلى تفاصيل الهجرة الفلسطينية التي فرضتها ظروف الحرب الأهلية وانقطاع الأمل وحيوية اليأس من أي مستقبل آمن وانساني في لبنان. ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من فلسطينيي "تل الزعتر" هاجرت إلى ألمانيا بعد سقوطه عام 1976.
وإذا كان سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان في السبعينيات قد نجحوا في ركوبهم الطائرات للوصول إلى بلاد الغرب، فإن إخوتهم من فلسطينيي سورية كانوا أتعس حظاً منهم. ففي السنوات الأربع الأخيرة من عمر الثورة السورية، ومع تعرض اللاجئين الفلسطينيين، في مخيم اليرموك خصوصاً، وفي بقية المخيمات، للقتل والاعتقال والحصار والتجويع والعطش، بدأ آلاف منهم رحلتهم التراجيدية، في البحار هذه المرة، ما أدى إلى موت مئات منهم، ونجاح آخرين في الوصول إلى دول الغرب. وتفيد تقديرات غير موثقة بأن أكثر من خمسين ألفاً هاجروا في السنوات الأخيرة إلى السويد والدنمارك وهولندا وغيرها من دول أوروبا.
ويعيش فلسطينيو سورية الحرب، أول مرة، منذ لجوئهم إلى سورية، وكانت أوضاعهم مستقرة، مقارنة بأقرانهم في لبنان، لكن قسوة الحرب وعمليات القصف التي قام بها النظام، وافتقادهم المرجعية السياسية التي تمثلهم، دفعت غالبيتهم إلى ركوب المخاطر، للبحث عن الأمن والأمان خارج سورية. فما الذي يميز المشهد نفسه في غزة عن بقية المشاهد الفلسطينية؟
إضافة الى قسوة الحروب التي تشن على غزة، وعمليات القتل العشوائية التي ترتكبها إسرائيل، فإن الواقع السياسي الذي يحكم غزة، اليوم، يجعل من الناس العاديين من سكان القطاع يعيشون حالة من البؤس وانعدام الرغبة في البقاء في غزة، وخصوصاً في ظل حالة الانقسام بين حركة حماس التي تحكم غزة والسلطة الفلسطينية في رام الله، ما يجعل الشعب الفلسطيني خارج اهتمام السلطتين، فها هي مأساة الغرقى صارت كرةً في ملعب الصراع والمزايدات بين الطرفين، ولم يصدر من أي منهما ما يشخّص المأساة المرشحة للتصعيد بمزيد من مخاطر الهجرة والموت في البحار الغريبة، فالسلطة تحمل حماس مسؤولية ما حدث، وحماس ترد التهمة، وتحمل إسرائيل المسؤولية كاملة، وترفض اتهامات السلطة، في حين أن المسؤولية كاملة تقع على الطرفين اللذين لم يقدما ما يطمئن المواطنين، العاديين خارج أطر الفصائل، على وجودهم حقاً على أجندة السلطتين المتنافستين في غزة ورام الله.