الموت.. حين يكون سوريّاً

16 ابريل 2015
+ الخط -

لم يكنِ البابُ النافرُ من القلبِ مشرعاً لكلِّ هذا الموت..

لم تكن أرواحنا المرتجفة كعصفور بلّله المطر، سوى إرهاصات الموت العظيم، الموت الذي كان يتمشى بيننا. أكرمناه متكئين على إرثنا البدوي، وتعايشنا معه معتمدين على "مَن عاشر القوم"، حتى صار ابننا الذي نتغاضى عن أخطائه كأننا أمهات حنونات، ونحتمي بظله الكبير كأننا إخوة مهزومون، ونمتدح رجولته كأننا آباء مترفون. والترف: هي اللفظة الأكثر التصاقاً بالغياب، الأشد جذباً للموت، والأقلُّ احتياجاً للمبررات.

كنّا نخرج من وهمٍ فنلتصق بخيال، ونهرب من وجع لنخترع بكاءً، ونسرق فرحاً هارباً، فإذا بنا نغازل قبراً في انتظار الأحبة. حين يكون الموت سوريّاً يعني أنك ستراه كثيراً وستراه ملوناً وستراه حاملاً صرّةً معلّقةً على عصاه، يجوب أصقاع السموات والأرضين، يبحث عن إخوانِه. إخوانه الذين ضنّوا على البئر به، فاحتدمت الذئابُ والسيّارةُ واختلفت الرواية... إذ لم يعدْ قميصٌ واحدٌ يكفي ليرتدَّ إلينا بصُرنا، ولا قيمة لقصاصة الحلم البعيد.

الحلم الذي كان أقربَ من صرخةِ مرّتْ مصادفةً على جدارٍ لطالما رأينا الموتَ حين كان طفلاً يمشي عليه بخطىً واثقة.

يتساءل مراقب خارجيٌّ: كيف لأصابع صغيرةٍ أن تساوي بين بياض الطباشير وأعشاش الدبابير؟

ليتسابق بعدها المحللون والمخنثون وصغار الكَسَبة في توصيف المشهد وارتداء عيون زرقاء اليمامة، ولتبدأ رحلة انتظار أشجار بهيئة فؤوس تتحرك على بعد يومين منّا. يومان مرّا ومرّ بعدهما عامان وألف ليلة، وملايين الحكايا. يا شهريار: النساء تألمْنَ منكَ، وتأملنَ في أطفالهنَّ ألا يكونوا سيّافين مسرورين في بلاطك الذي كان ذات خيفةٍ قديمةٍ أزليّاً، ويا شهرزاد: قصّي الحكاية كاملة علّه يبكي قليلاً حين تباغته الوحدة وينفضُّ عنه ندماؤه وتمسي وسادته حانةً كبيرةً وهو لا شيء سوى زجاجةٍ فرغتْ وآنَ للنادل أن يفتتح الكون الجديدَ بزجاجةٍ يهرق نبيذها على العتباتِ، ويلقي بنا نحن الكؤوس على الطاولات. يعلّق شاعرٌ مرتجلاً: لمن كل هذا الموت؟ تطأطئ الحياة رأسها خجلاً، وتسري بها وبنا قشعريرةٌ وتنتابنا صور الذكريات التي فرشناها في غابة عابرة للسوريين ونمنا عليها.

الآن نستحضرها ونبكي بحرقةٍ دفئها الذي افتقدناه حين أولمنا للموت قلوباً رطبةً وعيوناً حالمةً وقرابين من الأقرباء، تركناهم هناك وأخذنا ما علق في البال منهم. تخرجُ عن النصّ طفلةٌ تبحث عن دميتها فتنظر إلى دبابة تخمش وجه الأرض، وعاشقةٌ تفزُّ من نومها قبل أن يستطيع رجل اختار الحرب أن يصبح عاشقاً وقناصاً في آنٍ معاً. وعجوزٌ تقرأ البيتَ عن ظهر حبٍّ وتعلم ما تفعله السكاكين حين تتنكر بزي الملاعق، وتصرخ بها وبأحفادها: حان وقتُ الدواء.

الموت سوريٌّ تعرّض للبرّ والبحرّ والسماءْ/ الموت سوريّ تعلّم كيف يرصدُ طرائده ويُدمي قلوب صغار القطا/ الموت سوريٌّ... صرخ كهلٌ يعرف الحزن مُذ كان غضّاً/ ويعرفه حين سقطت أسنانه اللبنية وحين قلع ضرس العقل/ الموت سوريٌّ والعقل ضرسٌ دفنها آباءُ الموت أملاً في أن تغدو شجرةً تثمرُ عقلاً ويكون منخوراً بالوراثة، هشّاً بالولادة من شجرة عاقر. يُحكى أن المرأة العاقر قد تلدُ نبيّاً، ولكنَّ ذلك ليس عندما تكون العاقرُ شجرةً نبتتْ من نخرٍ في عقلٍ لم نكنْ نعرفُه إلا حين نخلع بملء إرادتنا ضرسَنا المؤلمة. حين يكون الموت سوريّاً نعرف حينها فقط لماذا صرخ المعريُّ: "جسدي خرقة تُخاطُ إلى الأر/ ضِ فيا خائط العوالم خِطني".


(سورية)

المساهمون