تتولى الطرق الصوفية في مصر تنظيم احتفالات الموالد، وتحديد مواعيدها بحيث لا تتعارض. وتشارك هذه الطرق بالمواكب، وحلقات الذكر، وقراءة الأوراد. في مصر نحو 70 طريقة صوفية مسجلة رسمياً، تتفرع كلها من عدد من الطرق الكبرى، أهمها: الرفاعية، والأحمدية البدوية، والشاذلية، والختمية، والبرهانية الدسوقية. وربما كانت احتفالات الطرق الصوفية بالموالد هي المظهر الوحيد الذي يأخذ طابعاً دينياً، لا سيّما مع حلقات الذكر والتلاوة والإنشاد.
أما مفردات الاحتفال بالمولد المصري، فهي أقرب إلى الموروث الشعبي منها إلى الدين. في الموالد قصاصون، وراقصات، ومجالس لتناول الطعام وشرب الحشيش، وازدحام، وتحرش، وألعاب سيرك، وختان أطفال، وشباب يمرحون، وبنات تزاحم، ومساجد مفتوحة للراحة والنوم.
وبالرغم من كون الموالد موروثاً شعبيا مصرياً مهماً، إلا أنها تجاوبت مع رياح التطور الاجتماعي، والتفاعل الفكري والسياسي والاقتصادي الصاخب. أصبحت الموالد تجتذب أعداداً أكبر من الطبقات الاجتماعية العليا، ومن خريجي المدارس الأجنبية، ومن الأثرياء وأبنائهم.
أمست المشاركة في نشاط المولد "موضة" يجب ألا تفوت شاباً عصرياً أو شابة متحررة. فمن الصعب تجاهل مولد الحسين أو مولد السيدة زينب، إذ تحشد الليلة الختامة ما يزيد عن مليون مشارك من جميع أنحاء مصر.
ساهمت التكنولوجيا في زيادة الإقبال على الموالد، بعد تراجع نسبي في عقد التسعينيات وبدايات الألفية الثانية. تفاصيل المولد كلها تسجل، كاميرات الهواتف المحمولة توثق كل التفاصيل: حلقات الذكر، والازدحام حول المنشد، والمتمايلون يميناً ويساراً مع ضربات الدفوف. يشارك الشباب هذه الصور والمقاطع على صفحات التواصل الاجتماعي، فتكون سبباً لإقبال متزايد، والصب في نهر المولد بمشاركين جدد.
لا يحظى تمويل الطرق الصوفية بالشفافية الكافية، والمعلن أن أموال الطرق تأتي من تبرعات الأعضاء، وبعض رجال الأعمال، وما ترصده الدولة من مخصصات، أهمها نسبة 10% من أموال صناديق النذور، التي قررها قانون تنظيم الطرق، وتدخل في موازنة المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
وتمثل الأضرحة التي تضم قبور آل البيت النبوي وكبار الصالحين والأولياء ركيزة كبرى لدى جميع الطرق الصوفية. فمعظم النشاط الصوفي يدور حول الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة، بالتجمع حولها وتزيينها بالأنوار والأعلام، وجذب الزوار الذين يلقون أموالهم بسخاء في صناديق النذور الملحقة بالأضرحة.
ومن الملاحظ أن المكونات المختلفة للمولد المصري والمتمثلة في الصخب والازدحام والألعاب والرقص تجتمع كلها عندما يكون الاحتفال بمولد صاحب ضريح مدفون في أرض مصر، سواء في القاهرة أو المحافظات، بينما تختفي كل هذه المظاهر عند الاحتفال بميلاد النبي محمد، الذي يستمر طوال أيام شهر ربيع الأول ولياليه، وتقتصر مظاهر الاحتفال خلاله على التلاوة والإنشاد ومواكب الطرق الصوفية.
لم تسلم الطرائق الموروثة للإنشاد الديني في الموالد المصرية من رياح التغيير، فاختفى تماماً الإنشاد المشيخي المقامي بقصائده الرصينة وموشحاته الملحنة على يد كبار شيوخ الفن، كما اختفت جوقة المرددين "البطانة"، وكلها مظاهر ميزت الإنشاد الديني المصري المتكون في القاهرة والدلتا، والذي يمثل الصورة "القومية" للإنشاد، فيصبح نجماً لامعاً من يتقنه حتى لو كان من غير أبناء القاهرة والدلتا، أو جاء من محافظات الصعيد.
وبدلًا من موشحات وقصائد علي محمود، وطه الفشني، وإبراهيم الفران، ومحمد الفيومي، انتشر الإنشاد الصعيدي انتشاراً واسعاً جداً، وأصبحت له السيادة الجماهيرية، وأمست الليالي التي يحييها المنشد ياسين التهامي أو ابنه محمود، تمثل أكبر تجمع لرواد المولد من مختلف الجهات والطبقات.
ولا نبالغ، إذا قلنا إن كثيرين من جيل الشباب الحالي لا يعرفون معنى للإنشاد الديني إلا بطريقة التهامي، ابن محافظة أسيوط في صعيد مصر. حيث يتغنى الرجل أو نجله محمود بجمل قصيرة، رشيقة، خالية من كل جماليات الإنشاد المصري الموروث، وكل تعقيدات التلحين الشرقي، مع إيقاعات تسمح بتمايل الحضور، والتطويح بأعلى الجسد يمينا ويسارا.
بعد ثورة 25 يناير، ومع انطلاق الثورة في سورية، جاءت إلى مصر عدة فرق إنشاد ديني سورية، وأصبحت هذه الفرق تشارك في الموالد الكبرى عموماً، ومولدي الإمام الحسين والسيدة زينب على وجه الخصوص، مع حفاوة جماهيرية ملحوظة، تمثلت في الأعداد الغفيرة من الشباب الذين يحرصون على الحضور وأيضاً في درجة التجاوب مع ما يقدمه المنشدون السوريون من أعمال.
لكن المؤكد أن هذه الفرق لم تكن لتحصد هذا النجاح الجماهيري، إلا في ظل التراجع الكبير لمدرسة الإنشاد الديني المصرية العريقة، واختفاء الأصوات العبقرية والمواهب الفذة التي شكلت العمد الرئيسة للإنشاد المصري لنحو قرن كامل.
وجدت هذه الفرق في الموالد وجمهورها فرصة كبيرة لعرض أعمالها، فاختارت نصوصاً ذات كلمات سهلة، وألحان خفيفة للغاية، وحرصت أن يكون جزء كبير مما تقدمه صالحاً لتردده الجماهير مع الفرقة. وأعادت تلحين عدد من الموشحات القديمة لتصبح سهلة الأداء، وتلائم الأصوات الضعيفة التي تغلب على الساحة حالياً.
لم تخل موالد مصر من التوظيف السياسي، لا سيما إن وافق المولد موسماً انتخابياً، إذ لا بد لمرشحي الدائرة التي تشهد المولد، وكذلك نوابها البرلمانيين، أن تكون لهم مشاركة واضحة في فعاليات المولد، بدءاً من تهنئة أهالي الدائرة وزوار صاحب الضريح عبر لافتات تعلق في الشوارع والميادين الرئيسة، وانتهاء بخدمة هؤلاء الزوار بتقديم الطعام والمشروبات لهم، خصوصا في الليلة الختامية. كما أن بعض المرشحين يستعينون بمشايخ الطرق الصوفية في حملاتهم الانتخابية، بالظهور معهم، وإجلاسهم على المنصات، وإلقائهم للكلمات التي تتضمن الإشارة إلى حب هذا المرشح لآل البيت وأولياء الله الصالحين.
بالرغم من كل ما طرأ على احتفالات الموالد في مصر من تغييرات اجتماعية وفنية وسلوكية، إلا إن موقف عموم المصريين من فكرة الاحتفال بالمولد والمشاركة فيه لم يتغير، رغم محاولات تيارات تحمل أفكاراً سلفية إثناء المصريين عن هذه العادة، باستخدام الفتاوى والخطب والمواعظ ودروس المساجد، لم تحقق هذه الحملات أي نجاح، وظل التدفق الشعبي على الموالد في زيادة لا تكاد تتناهى.
ولأن المولد طقس شعبي اجتماعي موروث، تشابهت الموالد الإسلامية مع الموالد القبطية بدرجة كبيرة، واتسمت هذه الاحتفالات بمشاركة المسلمين والمسيحيين في موالد الأولياء وأهل البيت، وأيضا في موالد القديسين.. مولد الحسين والسيدة زينب، يقابلهما مولد مار جرجس والسيدة العذراء: ختان أطفال المسلمين يقابله تعميد أطفال المسيحيين، الإنشاد يقابله الترانيم، مواكب الطرق الصوفية يقابلها زفة الأيقونة، مع الازدحام نفسه، والتقاليد نفسها، فالمولد ساحة تجمع ولا تفرق.