المواد المُشعّة... ملف متجدّد في لبنان
ملف المواد المشعة في لبنان فضيحة تنفجر بسبب مماحكات الفرقاء السياسيين، ثم تهدأ بفعل فاعل معلوم مجهول في النهاية، فيما لم تأخذ هذه القضية يوماً طريقها إلى القضاء، على الرغم ممّا تشكله من خطر بيئي على لبنان، طبيعة وإنساناً، وهو من ملفات الأمن القومي في دول كبرى. ويطل ملف هذه المواد المنتشرة في كل مساحة لبنان بعد فضائح المأكولات الفاسدة، وبعد تجوال القوارض في عنابر القمح، وقصة السكر المتعفن، وفضائح الأدوية المزورة، وتحوّل التوابل إلى مواد مسرطنة، ومياه الأطفال الملوثة.
وكانت مصادر إعلامية قد ذكرت، في العام 2012، أن خبراء حضروا إلى منطقة فاريا عيون السيمان، وهم أعضاء في لجنة تبحث عن النفايات النووية، وفحصوا بآلاتهم الإشعاع النووي، إذا كان موجوداً أم لا، فظهر في منطقة فاريا، باتجاه البقاع في منطقة تبلغ مساحتها 2 كلم طولاً و3 كلم عرضاً، وليس لدى الدولة اللبنانية القدرة على كشف هذه المواد، ولا معرفة بكيفية استخراجها، لأنه في زمن الحرب اللبنانية جاءت النفايات من إيطاليا سنة 1984، وأفيد لاحقاً بأن أربع شخصيات من زعماء الأحزاب الكبرى قبضت مبلغ 100 مليون دولار لدفن النفايات في مواقع متعددة، منها في الشمال وفي جرود جبيل وفي جرود كسروان وبين البقاع الغربي وجبال الباروك.
يطل هذه الملف، بعد عشرين عاماً على فضيحة مماثلة، فبين يناير/ كانون الثاني 1995 وفبراير/ شباط من ذلك العام، أثيرت ضجة كبرى حول استيراد كميات كبيرة من المواد المشعة والسامة إلى لبنان، وحول طمرها في لبنان، وكان آنذاك وزير البيئة بين 1992 و1995، نفسه وزير الدفاع الحالي سمير مقبل الذي أرسل، أخيراً، إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء قراراً يقضي بالطلب من قيادة الجيش إنشاء مركز دائم لتخزين المواد المشعة في ثكنة عسكرية في خراج بلدة عدلون الجنوبية في قضاء الزهراني.
وكشفت أوساط رسمية مقربة من رئيس الحكومة، تمام سلام، لصحيفة لبنانية عن مداولات جرت بين مؤسسات رسمية بشأن النفايات المشعة الموجودة في لبنان، بكميات لا يستهان بها، على خلفية نصائح متتالية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيجاد أماكن لتخزين هذه المواد الموجودة حالياً في أكثر من مركز رسمي، وبحماية أجهزة رسمية.
ولفتت الأوساط الرسمية إلى أن "مصدر معظم هذه النفايات المشعة سورية والعراق" وبعض دول المنطقة، ناهيك عن فضيحة كان قد أثارها وزير المال، ولم تعرض تفاصيلها، وهي المتصلة باستيراد كميات كبيرة من الحديد المجدول من تشرنوبيل (أوكرانيا) بعد التسرب النووي مباشرة في 1986، وهي كميات تبيّن أنها لم تستخدم في تجارة مواد البناء، لكنها دخلت إلى الأراضي اللبنانية، ويجري البحث عن الأماكن التي جرى تخزينها فيها.
وذكرت أوساط مطلعة أن رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، وفور اطلاعه على نص القرار، تمنى على المعنيين تجميده وسحبه، فتجاوبت رئاسة الحكومة وقيادة الجيش، واتصل قائد الجيش اللبناني، العماد جان قهوجي، برئيس المجلس، وأبلغه أن القرار أصبح "كأنه لم يكن".
مذكرة تفاهم واتفاقيات
وقد سبق أن وقع لبنان، أواخر عام 2008، ممثلاً بإدارة الجمارك اللبنانية، مع وزارة الطاقة الأميركية مذكرة تفاهم للحد من الاتجار غير المشروع بالمواد النووية والمشعة. وقال المدير العام السابق للجمارك، العميد الركن أسعد غانم، يومذاك إن المذكرة تساهم في تجنب الإرهاب النووي، وتهدف إلى حماية الإنسان والبيئة من آثار الإشعاع. وقالت السفيرة الأميركية السابقة، ميشيل سيسون، إن "موقع لبنان الاستراتيجي والأساسي يضفي على المذكرة أهمية خاصة". وقدمت وزارة الطاقة الأميركية، من خلال إدارة الأمن النووي القومي التابعة لها، وبإجازة من الحكومة اللبنانية، مساعدات تقنية، على شكل أجهزة ومواد وخدمات وتدريب لتستخدمها الجمارك اللبنانية في مهام كشف واعتراض أعمال الإتجار غير المشروع بالمواد النووية الخاصة، وغيرها من المواد الإشعاعية الأخرى، كما شملت المذكرة "تسليم وتركيب الأجهزة في الموانئ البحرية وفي المطارات الجوية وفي مواقع عبور الحدود الأرضية، وغير ذلك من منشآت يحددها الطرفان".
وجعلت المذكرة لبنان عضواً في مجموعة محدودة من الدول الأعضاء، في مبادرة كانت تشمل آنذاك عدداً حصرياً من الدول، هولندا واليونان وسريلانكا وسنغافورة وإسبانيا والباهامس والفلبين وبلجيكا وبريطانيا.
وألقى الرئيس الأميركي، بارك أوباما، بثقله، وبمزيد من التمويل، وراء برنامج أخذ في الاتساع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتأمين المواد النووية التي لا تخضع لرقابة صارمة حول العالم، وضمان عدم حصول مهربي المواد النووية أو الإرهابيين عليها.
وكان مسؤول في مؤسسة "روس أتو" المسؤولة عن مجمع الصناعات النووية والمواد المشعة، قد كشف، في العام 2009، في حيث لصحيفة عربية تفاصيل عن شحنة المواد المشعة القوية التأثير التي جرى نقلها نهاية شهر أغسطس/ آب 2009 من لبنان إلى روسيا بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبطلب من الجانب اللبناني. وذكر المسؤول أن الشحنة التي اشتملت على جهاز إشعاع حوى 36 قطعة من مادة Cobalt 60 المشعة القوية التي جرى تصنيعها في روسيا عام 1995، وكانت صالحة للعمل 15 عاماً. وجرى إرسالها إلى لبنان بناءً على اتفاق وقعته مؤسسة "إيز آتور" التابعة للوكالة الروسية للطاقة مع الجانب اللبناني، بهدف العمل على مشروع زراعي في بيروت. وبعد نفاد فترة صلاحيتها الأولى، أوفدت موسكو خبراء، بطلب من لبنان، لتقويم وضع المواد المشعة، وقرروا تمديد صلاحيتها خمس سنوات. لكن العمل أوقف في المنشأة. وطلبت بيروت من الشركة الروسية نقل الجهاز والمواد المشعة من لبنان. وبناءً على اتفاق بين "إيز آتور" ومركز "بطرسبورغ للطوارئ وأعمال الإنقاذ والصيانة"، تم التوصل إليه في مارس/ آذار 2009، بدأ التحضير لنقل الشحنة بالتعاون مع الوكالة الدولية. وقال روبين هيرد، الخبير في مصادر الطاقة النووية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا آنذاك، إن تنفيذ مشروع نقل المواد القوية الإشعاع من الوكالة، تم بناءً على طلب قدمته الحكومة اللبنانية للوكالة قبل سنوات. وقال رداً على سؤال بشأن اختيار التوقيت لتنفيذ النقل، إنه لا أبعاد سياسية تتعلق بالأمر، مُفيداً بأن هذه المواد كانت قيد الاستعمال في مشروع زراعي في لبنان، وبأنها، على الرغم من خطورتها، مصادر نووية محفوظة في شكل آمن داخل الآلات التي كانت بها. وأوضح هيرد أن إتمام مشروع نقل هذه المواد الخطرة واجه تحديات كبيرة على الصعيد الزمني، وأن قصف إسرائيل مطار بيروت في حرب يوليو/ تموز عام 2006 كان مباشرة عقب وصول فريق الوكالة، في أول مهمة له في لبنان. وقال إن الموقف في الشرق الأوسط، وخصوصاً في لبنان، جعلنا نرى أن هذه المصادر "المشعة" عرضة لأعمال شريرة، وإذا تمت سرقتها فستسبب أضراراً كثيرة للناس.
ورأت مصادر، وقتذاك، أنه لم يكن من سراب قول الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إن المواجهة المقبلة ستغيّر وجه المنطقة، ولم تكن "تلميحاته" عن أهمية التفكير ببناء مفاعل نووي في لبنان لأغراض الطاقة من النوع "النار من دون دخان"، لا سيما أن المنطقة تعيش سباقاً بلا هوادة لتعزيز مكامن القوة ومعالجة الثغرات لدى كل طرف، استعداداً للمنازلة الكبرى.
تعاون مع الاتحاد الأوروبي
ويشار إلى أن الاتحاد الأوروبي، عبر مندوبي شركة Aspect، وبإشراف الخبيرة الدكتورة هيلين نصر، قاموا بتركيب آلات وأجهزة كشف "المواد المشعة" في النقاط الحدودية، كالمرفأ والمطار والمعابر البرية، وهي معدات مربوطة عبر الإنترنت، مهمتها الكشف على البضائع المستوردة، للتأكد من خُلوّها من مواد مشعة، قبل خروجها من المعابر المختلفة، الجوية والبحرية والبرية. ولفتت مصادر أمنية لبنانية إلى أن خبراء من الاتحاد الأوروبي أشرفوا على تركيب هذه الآلات وتجهيزها، متسائلة عن سبب البث المباشر للمعلومات، وإمكان جعلها بازاراً مفتوحاً ليس برسم الاتحاد الأوروبي فحسب، بل برسم إسرائيل أيضاً، وأوضحت أن حركة الذهاب والإياب عبر المعابر باتت مكشوفة لحركة الاستيراد والتصدير، والمواد المشعة التي يفترض ألا تصل، أصلاً، إلى البلاد أو أن تراقب قبل دخولها واختلاطها بالبضائع الأخرى، وليس في أثناء خروجها.
وكانت الدولة اللبنانية قد أبرمت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية معاهداتٍ تعنى بالرقابة الإشعاعية وأمن استخدام الأشعة المؤينة وأمانه، ولا سيما معاهدة الحماية المادية للمواد النووية والأمان النووي، وتقديم المساعدة في حالة الطوارئ الناجمة عن وقوع حادث نووي أو إشعاعي، والإبلاغ المبكر عن الحوادث الإشعاعية وأمن إدارة النفايات المشعة. كما أن الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية التي أنشئت عام 1966، وهي جزء من المجلس الوطني للبحوث العلمية، تهدف إلى إيجاد البنى التحتية اللازمة للوقاية من الإشعاعات في لبنان وتطوير الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية. وتشكّل "الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية" الجهة الرسمية الوطنية في شأن الأمن والأمان والطوارئ الإشعاعية وتتعاون مع الإدارات الرسمية والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومن مهمات الهيئة إجراء مهام الرقابة الإشعاعية الفردية، ومسح المواد المشعة والتجهيزات المصدرة والكاشفة للإشعاعات المؤينة في لبنان، والرقابة الاشعاعية في المرافئ والنقاط الحدودية على المواد الغذائية وبعض المعادن المستخدمة في البناء والصناعة التي يستوردها لبنان، كما تجري الهيئة، باعتبارها مركزاً معتمداً، الفحوصات الإشعاعية لمواد غذائية وبعض المعادن المصدرة، وإصدار شهادات تعتمدها الدول المستوردة لدخول البضائع المذكورة إلى أراضيها. وقد تم تجهيز مختبراتها بأحدث التجهيزات العلمية، وتم تدريب العاملين فيها، من علماء ومهندسين وفنيين وتقنيين، في مختلف ميادين الرقابة الإشعاعية والأمن والأمان النووي. وهذه المختبرات من بين المختبرات الخمسين في العالم التي تعتمدها الوكالة الدولية للطاقة الذرية كمرجع ALMERA Network. وتراقب الهيئة أكثر من ألفي عامل في الحقل الإشعاعي، موزعين على أكثر من 150 مؤسسة طبية وصناعية وبحثية، وتقدم تقارير دورية بالنتائج.
تهريب وتسريب
وقد استقبل الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية، الدكتور معين حمزة، ومدير الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية التابعة للمجلس، الدكتور بلال النصولي، وزيري المال علي حسن خليل والصحة العامة وائل أبو فاعور، في مقر الهيئة في 26 فبراير/ شباط الماضي. وكانت قد ضبطت في مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري الدولي أدوات منزلية ومطبخية تحتوي على إشعاعات خطرة جداً من مادة Cobalt 60 المشع مصدرها الأساسي الهند. وفي ما يخص كيفية وصول هذه البضائع إلى لبنان، وفي ظل نظام التتبُّع العالمي الذي يهدف إلى ملاحقة المواد المشعة، وعملاً بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NNPT أو NPT)، والتي تم توقيعها في 1 يوليو/ تموز 1968، ثمة احتمالان: الأول تعرض الأدوات المُكتشفة إلى الإشعاعات النووية في بلد المنشأ، أو وجود نفايات نووية، أو بضائع مشعة أخرى على وسيلة الشحن التي نقلت البضائع.
ويوضح مدير الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية التابعة للمجلس، الدكتور بلال النصولي، أن المستشفيات في لبنان استغنت عن تلك المادة، واستبدلتها بالمسرعات الخطية. وفي العام 2009، عملت الهيئة على إخراج 36 مصدراً من Cobalt 60 من مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية إلى خارج لبنان، بتمويل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي العام 2011 عملت على إخراج مصدر واحد من المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية في بيروت، ويجري العمل، حالياً على إخراج مصدرين من مستشفى سيدة المعونات في جبل لبنان ومستشفى رزق في بيروت.
وفي الجانب الصناعي، تضم مصانع تدوير الركام في العالم كواشف شعاعية لرصد المواد المشعة. وفي حال لم يتم الكشف في مصنع إعادة التدوير عن تلك المواد، تنصهر مع المعادن الأخرى. لذا، قد تكون موجودة في الأواني والسيارات والشبابيك الحديدية وغيرها. وتشتهر في الصين والهند وهولندا، مثلاً، بإعادة تدوير الخردة، ويتم تسجيل حوادث مشابهة في بلدان كثيرة، منها البرازيل وتايلاند والولايات المتحدة وبريطانيا والأردن.
ويوجد بنك معلومات للإتجار غير المشروع بالمواد المشعة في 150 دولة، منها لبنان، الذي يشهد حالة أو حالتين سنوياً في مجال الاستيراد وغيرها في مجال التصدير. كما أن المعابر الحدودية اللبنانية غير الشرعية تصل عبرها المواد المشعة، ما يطرح تحديات ومخاطر لا يمكن أن تستثني أحداً من اللبنانيين، أو القاطنين في لبنان، مع وجود توجه لدى عصابات ومافيات متخصصة بتهريب هذا النوع من المواد المشعة في منطقة الشرق الأوسط لنقل كميات إضافية منها، خصوصاً بواسطة خردة الحديد إلى الأراضي اللبنانية.