يترافق تنفيذ إجراءات اتفاقات مينسك على الأرض وإن بصورة جزئية، وسط هدوء على الجبهات تخرقه اشتباكات بسيطة، مع تأكيدات من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني بيترو بوروشينكو، أن لا تراجع عن خط المواجهة في القرم.
فكلا الطرفين يؤكد سيادته على شبه الجزيرة التي انضمت إلى روسيا ربيع العام الماضي، وتبعيتها له. وبصرف النظر عن خضوعها اليوم كلياً لروسيا وعجز أوكرانيا عن استعادتها، فإن بوروشينكو لا يستطيع التسليم أمام ناخبيه بالهزيمة.
فالشارع الأوكراني الغاضب من نتائج الحرب وتدهور مستوى معيشته والقوى القومية المتطرفة في غرب أوكرانيا الموالية للغرب والتي لا تقبل بفكرة الهزيمة أمام شرقها الموالي لروسيا، والجيش الذي زُجّ في حرب أهلية بحسابات ورهانات خاطئة ومُرغت كرامته في وحل السياسة، كلها عوامل لا تُطمئن الرئيس الأوكراني إلى إمكانية أن ينهي فترته الرئاسية بسلام. وكثيراً ما يدور الحديث في الأوساط الأوكرانية عن نضوج فكرة الانقلاب على ملك الشوكولاته الذي لم تفده خبرته في إدارة الأعمال، لإدارة الوضع البالغ التعقيد في بلاده التي تحوّلت إلى ساحة صراع جيوسياسي.
خطابان متناقضان والهدف واحد
إلى جانب تأكيده أن تبعية القرم السياسية والإدارية لروسيا ليست قراراً روسياً، وإنما هي خيار شعوب جزيرة القرم، يركّز الرئيس الروسي على الطابع القومي والإثني المتعدد لسكان شبه الجزيرة المتنازع عليها، في إشارة واضحة إلى أن الأولوية فيها الآن للتعايش بسلام، ولكن تحت الراية الروسية وبما يوافق القواعد الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لأن عكس ذلك سيعني ازدواجية في المعايير ومغامرة بمصائر الشعوب.
ففي الثالث والعشرين من فبراير/شباط الحالي، قال بوتين أثناء لقاء أجرته معه "في غي تي آر كا" الروسية: "فيما يخص القرم، تذكرون منذ عام حين تحدثت أمام النواب في مجلس الفيدرالية بهذا الخصوص، قلت كما كانت القرم روسية ستبقى روسية وأوكرانية وتترية وإغريقية وألمانية، ستكون بيتاً لجميع هذه الشعوب". وأضاف الرئيس الروسي: "أما حول تبعية القرم الحكومية، فإن الناس الذين يعيشون فيها اختاروا بأنفسهم، ويجب التعامل مع خيارهم باحترام، ولا تستطيع روسيا أن تتعامل مع ذلك بطريقة أخرى، وآمل أن يتعامل شركاؤنا وجيراننا القريبون والبعيدون مع هذه النتيجة بالطريقة نفسها".
ودعا إلى مراجعة تصريحات كبار المسؤولين الأوكرانيين، بمن فيهم القيادات العسكرية، مشيراً إلى تصريح رئيس هيئة الأركان الأوكرانية الذي قال، وفقاً لبوتين: "إننا لا نقاتل ضد الجيش الروسي". وتساءل الرئيس الروسي: "ما المطلوب أكثر من ذلك؟ ولكن على العموم هذا أمر شديد السوء. من محاولة تبرير الهزيمة ومحاولة تحميل روسيا المسؤولية، إلى الأمر الأكثر سوءاً وهو محاولة تضخيم النزاع بين أوكرانيا وروسيا".
وإذ لم يذكر بوتين مباشرة من هم أولئك الذين ينفخون في نار الخلاف بين كييف وموسكو، فإنه أشار إلى المصلحة الأوروبية بالسلام في أوكرانيا، قائلاً: "أفترض أن مصلحة أوروبا في تنفيذ اتفاقات مينسك ليست أقل من مصلحة روسيا، فلا أحد يحتاج إلى نزاع، وخصوصاً إذا كان مسلحاً على أطراف أوروبا".
اقرأ أيضاً: موسكو تحشد في الميدان: رسالة استباقية ضد "فيسنا"
وفي سياق تأكيد الرئيس الروسي استمرار الاتصالات مع القيادة الأوكرانية، عبّر عن استغرابه من التصريحات العلنية الصادرة عن هذه القيادة، وهو على الأرجح يعني وعد بوروشينكو شعبه "باستعادة الأراضي المحتلة"، في خطاب وجّهه إلى الشعب الأوكراني عشية الذكرى السنوية الأولى للميدان الذي جاء به إلى الحكم، وذهب بأقاليم أوكرانية إلى الانفصال عن المركز.
ونقلت وكالة "إنترفاكس" خطاب بوروشينكو للشعب الأوكراني، الذي قال: "سوف تستعيد الدولة الأوكرانية السيطرة على الأراضي المحتلة مؤقتاً. لن أقول اليوم إن هذا سيتم بسهولة وببساطة، ولكن هذا سيتم بالتأكيد. فأوكرانيا لن تتخلى أبداً عن حقوقها السيادية على القرم، وسوف تدافع عن حقوق الناس الذين يعيشون هناك، ويوجد توافق تام بين السلطة الأوكرانية والسياسيين والمجتمع المدني في هذه المسألة، كما نحظى بتضامن مطلق من دول العالم، وجميع المنظمات الدولية".
إلا أن وعود الرئيس الأوكراني تأتي على خلفية عمل القيادة الأوكرانية في مسارين متناقضين. فمن جهة يتم العمل على تسهيل اتخاذ إجراءات لتنفيذ اتفاقات مينسك ذات الأبعاد المصيرية، وخصوصاً ما يتعلق منها بوضع خاص لإقليم دونباس، ومن جهة أخرى تُتخذ إجراءات لمواجهة الإرهاب المدعوم روسياً، كما تقول كييف.
فإلى جانب الإعلان عن أن بوروشينكو "سيصادق في الأسبوع المقبل على تشكيل اللجنة الدستورية"، كما نقلت وكالة "ريا نوفوستي"، للنظر في التعديلات المطلوبة استجابة لاتفاقات مينسك، يأتي الإعلان عن أنّ الرئيس الأوكراني وقّع، في العشرين من فبراير/شباط الحالي، مرسوماً يقضي بتنفيذ قرارات مجلس الأمن والدفاع الأوكراني حول الإجراءات الاستثنائية لمواجهة التهديدات الروسية ومظاهر الإرهاب المدعوم من روسيا الاتحادية.
ومن الجدير بالذكر أنّ اجتماعاً لمجلس الأمن والدفاع الأوكراني جرى في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، بمبادرة من بوروشينكو. ووفقاً للقرارات المتخذة فيه، فإن مجلس الوزراء مكلّف باتخاذ إجراءات عاجلة لمساعدة المتضررين من "العمليات الإرهابية"، في منطقتي دونيتسك ولوغانسك. كما أن الحكومة مكلّفة مع المجلس القومي للبث التلفزيوني والإذاعي، باتخاذ إجراءات لمواجهة العدوان الإعلامي الروسي. وكذلك تم توجيه النيابة العامة لاتخاذ إجراءات لاعتبار جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك منظمتين إرهابيتين، وفق ما نقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن الرئاسة الأوكرانية.
وهكذا، لا يبدو واضحاً كيف ستتم تسوية الأزمة الأوكرانية في ظل التصعيد بين كييف وموسكو، والجميع يدرك أن أي تسوية هناك غير ممكنة من دون اتفاق الطرفين، أم أن التصعيد سينتهي بطي صفحة شبه جزيرة القرم مقابل حصول دونباس على الحد الأدنى من المطالب التي ضمنتها له اتفاقات مينسك، أم سيعني إبقاء الملفين ورقة تداول في الصراعات السياسية الأوكرانية الداخلية وورقة استجرار مساعدات وتمويل غربي، مقابل حصاد بوتين لمزيد من نقاط القوميين المستعدين للانقضاض على أي ميدان؟ ولكن مصير بوروشينكو على هذه الخلفية يبدو مهدداً من المتطرفين القوميين المتربصين بكرسيه.