يوماً بعد يوم، تضيقُ الخيارات أمام العراقيّين. كانت قد بدأت الأزمة قبل نحو 12 عاماً، أي منذ الاحتلال الأميركي عام 2003، وما تلاه من أزمات أمنيّة واقتصاديّة كبيرة، أدت إلى تضاؤل فرص العمل في البلاد. ولم يكن أمام العراقيّين غير البحث عن حلول بديلة. وبدا لافتاً اختيار كثيرين العمل في مهن جديدة في الشارع العراقي، انطلاقاً من أن "الحاجة هي أمّ الاختراع". هكذا، لم يعد عدد كبير من المواطنين يكترثون للمهن التي اضطروا إلى العمل فيها. وقد تجد أن ضابطاً سابقاً في الجيش العراقي برتبة رفيعة اضطر إلى العمل كسائق سيارة أجرة أو بائع للحلويات وغيرها. وصار جلّ اهتمام هؤلاء هو كسب لقمة العيش.
أحمد الدليمي، وهو ضابط سابق في الحرس الجمهوري برتبة عقيد، وجد نفسه من دون عمل بعد قرار حلّ الجيش والأجهزة الأمنية من قبل الحاكم المدني بول بريمر. قبل الاحتلال عام 2003، عمل كسائق سيارة أجرة، ثم انتقل إلى تصليح الهواتف النقالة. يقول لـ"العربي الجديد": "على الرغم من أنني كنتُ ضابطاً سابقاً في جهاز رفيع في الدولة، إلا أن هذا لم يمنعني من العمل في أي مهنة لتأمين احتياجات عائلتي، وقد أصبحتُ، حالي حال الآلاف، من دون عمل وراتب، بعدما حُرمنا من جميع امتيازاتنا كوننا رفضنا الانضمام إلى الجيش الجديد الذي أنشأه الاحتلال الأميركي".
ويوضح الدليمي لـ"العربي الجديد": "سابقاً، كنت أفكّر أن المهن والأعمال الصناعية لا تتناسب ومكانتي كضابط، لكن جل اهتمامي اليوم ينصب على تأمين جميع احتياجات عائلتي. اليوم، صار لدي زبائني، وقد بدأت أُطوّر عملي بشكل أفضل".
في هذا السياق، يرى باحثون أن البطالة التي تفشت في البلاد بعد عام 2003، شكلت حافزاً لدى العراقيين لإيجاد فرص عمل جديدة لكسب الرزق.
يقول الباحث الاجتماعي مرتضى المسعودي، إن الاحتلال الأميركي دمّر البنية التحتية للبلاد، من مصانع ومعامل ومنشآت، بالإضافة إلى الجيش والأجهزة الأمنية، وصار هناك عشرات الآلاف من العراقيين من دون عمل، ما دفعهم إلى التوجّه نحو الأعمال والمهن الحرة. يضيف أن البطالة دفعت العراقيين إلى العمل في مهن أخرى. منهم من عمل نادلاً في مطعم أو سائقاً، ومنهم من صار يبيع مشتقات الحليب ويربي الدواجن، فيما لجأ آخرون إلى بيع السجائر لتوفير لقمة العيش. وكان لافتاً أن هذه الأعمال لم تعد محصورة بالرجال فقط، بعدما أجبرت فتيات ونساء على العمل بسبب ضيق الحال.
أم صادق (39 عاماً)، فقدت زوجها خلال حرب الخليج الثالثة، ووجدت نفسها مضطرة إلى إعالة أطفالها الثلاثة. تقول إنها فكرت كثيراً في عمل يناسبها كامرأة. بعدها، بدأت في تربية الدواجن في منزلها الصغير وبيع البيض للجيران وشراء الحليب من الأرياف والقرى وبيع مشتقاته. من خلال هذا العمل، تمكنت من إعالة أطفالها وتعليمهم. تضيف: "لو كان زوجي حياً، لم يكن ليسمح لي بتربية الدواجن أو بيع مشتقات الحليب. لكنني كنت أمام خيارين: العمل بشرف أو الضياع في خضم الحياة القاسية".
وكان هذا حالُ فاتن البلداوي (31 عاماً) أيضاً، التي وجدت نفسها مضطرة للعمل لإعالة والدتها وشقيقيها الصغيرين بعد وفاة والدها، فعملت في صالون نسائي لتصفيف الشعر. تقول: "كان والدي محافظاً جداً. لو كان على قيد الحياة، لما تركني أعمل على الإطلاق". ومع الوقت، احترفت المهنة، حتى أنها افتتحت صالوناً خاصاً بها. تضيف: "ربما لا يحبّذ المجتمع عمل الفتيات، لكن كان عليّ أن أعمل وأجتهد لأعيش بكرامة، حتى لو كنت شابة في مقتبل العمر. هكذا هي الحياة، وعلينا عيشها بحلوها ومرّها".
اقرأ أيضاً: الموت ينعش مهنة حفاري القبور في العراق
ومن المهن الجديدة التي ظهرت في المجتمع العراقي والتي لم تكن منتشرة بكثرة قبل عام 2003، هي عمل الفتيات في المقاهي والمطاعم، أو بيع مشتقات الحليب والدواجن في المنازل. في هذا الإطار، ترى الباحثة الاجتماعية بثينة عبد الحميد أن "ظهور هذه المهن لم يكن صدفة، بل بسبب الحاجة الملحّة للعيش في ظل البطالة والدمار الذي لحق بالبنية التحتية في عموم البلاد بسبب الحروب المستمرة. وما كان مرفوضاً في السابق أصبح أمراً عادياً، كعمل الفتيات كنادلات في المطاعم وغيرها".
وتعزو عبد الحميد سبب ظهور هذه المهن إلى الحاجة الملحة للعيش، مشيرة إلى أن "الشعب العراقي يحب العمل والاجتهاد بطبعه". تتابع أنه بعد عام 2003، كثرت الدكاكين الصغيرة، فيما عمد آخرون إلى تربية الدواجن وبيع مشتقات الحليب والسجائر في المنازل، وتصليح الهواتف النقالة، وتصفيف الشعر، وغيرها". ويعزو مراقبون سبب ظهور هذه المهن إلى الحاجة الماسة للعيش، فيما كان كثيرٌ منها ربما غير مقبول من الناحية الاجتماعية.
إلى ذلك، يرى الباحث في التنمية البشرية مازن الجبوري أن "المجتمع العراقي محافظ. على سبيل المثال، كانت غالبية العراقيين تنظر إلى عمل الفتيات على أنه معيب جداً. لكن بعد عام 2003، تغيّر التفكير وقد انحصر بتأمين لقمة العيش بكرامة". يضيف أنه بات طبيعياً رؤية فتيات شابات يعملن في كافيتريا أو متجر كبير أو مطعم لإعالة أنفسهن وأسرهن، ورجالاً يعملون في مهن لم يتخيّلوا يوماً أنهم قد يعملون فيها، على غرار تربية الدواجن وبيع السجائر وتصليح الهواتف وبيع المواد والسلع، خشية النظرة الدونية لبعض المهن، وإن كانت قد تضاءلت بشكل كبير بسبب الحاجة الملحة للعيش وكسب الرزق.
تجدر الإشارة إلى أن وزارة التخطيط العراقية كانت قد أعلنت، في يوليو/ تموز من العام الماضي، أن نسبة البطالة في المجتمع العراقي بلغت 16 في المائة. في ذلك الوقت، بدأت الوزارة تعمل على تشجيع القطاعات الأساسية في البلاد، على غرار القطاع الخاص، بهدف خلق فرص عمل جديدة. كذلك، توقعت زيادة نسبة الفقر في العراق إلى 31 في المائة خلال شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط الماضيين، عازية الأسباب إلى زيادة معدلات البطالة والنازحين والأزمة المالية. ربما لن يرتاح العراقيون في وقت قريب، وخصوصاً أن المشاكل والأزمات تحاصرهم.
اقرأ أيضاً: عن بلادٍ تدفن مواهبها