المهمة الأولى

15 فبراير 2017
+ الخط -


في أحد أيام الاثنين من شهر أكتوبر/تشرين الأول في عام 2011، استيقظت أبكر من العادة واتخذت اتجاهاً مغايراً في حياتي. أعني بالمعنى الحرفي.

فبدل ركوبي بالدوار الشمالي الموصل إلى الجامعة وتحديداً إلى كافتيريا الصيدلة، صعدت إلى باص الدوار الجنوبي أو ما يسميه البعض بالتيتانيك، لضخامته ولقدومه من زمن مشابه.

بعد نصف ساعة وقليلٍ من الدعسات على الأقدام وارتطام الرؤوس عند كل فرملة، نزلت في الزاهرة واستنشقت هواء الساعة الثامنة بعمق.


في الثامنة والنصف كنت أطلّ على إحدى زوايا دمشق. في مبنى الهلال الأحمر وعلى ارتفاع تسعة طوابق، كنت واقفاً أمام نافذة مفتوحة وبيدي فنجان قهوة حضرتها منذ قليل، جلدي لم يكن قد اعتاد الملمس الخشن لبدلة الإسعاف بعد، وعيناي أيضاً لم تكونا قد اعتادتا اللون الأحمر الغامق.

رشفت من الفنجان واعتمدت على الكافيين وعلى نسمة الصبح لإيقاظ مازال نائماً من خلاياي. أخذت نفساً عميقاً وقبل أن أتمكن من التمتع بهدوء دمشق في الصباح، كانت أصوات الباعة في سوق قريب قد انسلت عبر النافذة، (أصابيع البوبو يا خيار.. طيب وعالمكسر). أغلقت النافذة و جلست إلى طاولة وأمامي فردتُ عدة مناوبتي الأولى كمسعف: لابتوبي. مرجع طبي. وزقاق المدق لنجيب محفوظ.


كان يوماً هادئاً لا يبشر بأي حدثٍ. ومن جهتي، استسلمت لكسلي و لكافيين قهوتي ولصفحة فيسبوك لا تنتهي. وتمنيت لو أبقى في مكاني حتى تدق الثانية عشرة معلنة انتهاء مناوبتي وعودتي لخط حياتي الطبيعي: الدوار الشمالي.


الساعة التاسعة والربع دخلت قائدة فرقتي وجلست إلى طاولة أخرى. دردشنا قليلاً ثم انصرفت إلى لابتوبها هي الأخرى. في غرفة المعيشة، كان فتاة وشاب يتناولان الإفطار ويبدلان محطات فضائية، هما عضوا الفرقة الآخران.

حين دقت الحادية عشرة كنت قد مللتُ وسائل تسليتي وفتحت روابط كثيرة بمتصفح الإنترنت وقرأت أخباراً كثيرة، من بينها خبر عن قيام مظاهرة قبل يوم  في منطقة نهر عيشة. الحادية عشر والربع بدأت أشعر بوضوح بثقل الوقت إذ يمر ببطء، وغدت الدقائق تنبهني واحدة واحدة بمرورها، فهربت منها إلى لعب كانسة الألغام.


الساعة الثانية عشرة إلا عشرة، تنفست الصعداء أخيراً، وبدأت بإغلاق الروابط الكثيرة العالقة استعداداً لإفطار متأخر في كافتيريا الصيدلة. في هذه اللحظة فُتح باب الغرفة بقوة ومد زميلي الشاب رأسه ونظر مباشرة بعيني قائدتي.

- نهر عيشة, المهمة جاهزة! قالها بطريقة درامية. الأخرى نظرت مباشرة إلي:

- أنت جاهز؟

- أنا جاهز!

لم أكذب تماماً فقد كنت جاهزاً ولكن ليس لنهر عيشة، وإنما لخلع بدلة الإسعاف والعودة إلى الجلوس دون هدف في الجامعة.

- نلتقي بعد خمس دقائق عند المصعد. قالتها وخرجت فخرجتُ بدوري وتحركتُ بعكس الاتجاه نحو الحمامات. بعد قليل وجدت نفسي أتوضأ لأول مرة منذ صلاة العيد، فلا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث في نهر عيشة.

عدت إلى الغرفة وصليت بسرعة تالياً أقصر سورتين في القرآن مع الفاتحة. اتجهت بعدها للمصعد حيث كان أعضاء الفرقة بانتظاري.

نزلنا صامتين إلى الكراج فركبت مع زميلَيّ الأكثر خبرة في المقصورة الخلفية لسيارة الإسعاف أما القائدة فصعدت إلى جانب السائق.

- عمليات عمليات. 103 انطلاق من الزاهرة.

- علم 103. انقطع صوت اللاسلكي وخرجت السيارة من البناء، هكذا وخلال بضع دقائق انسحبت من لعب كانسة الألغام إلى سيارة إسعاف متجهة إلى منطقة مشتعلة.


في هرم النظام المروري بدمشق تتمتع سيارات الإسعاف بمكانة عالية ويسبقها فقط سيارات المراسيم وسيارات أجهزة الأمن، أما كل ما عدا ذلك فيقف احتراماً ويبتعد عند مرور سيارة إسعاف خصوصاً إذا أطلقت لزمورها العنان. وهكذا.. اخترقت السيارة الشوارع دون أن يوقفها شيء.


لم يبدُ على زميليّ الجالسَين معي أي إشارات للقلق بل كانا يتبادلان النكت والضحك؛ الأمر الذي لم أفهمه فزاد توتري، ولكي لا أبدي ذلك كنت أومئ برأسي عندما يتحدث أحدهما معي وأضحك بصوت أعلى منهما عندما يضحكان.


الجالس في الخلف في سيارة الإسعاف يرى الشارع فقط عبر نافذة الباب الخلفي لذلك لم يكن من السهل معرفة مسارنا، رغم ذلك بدا لي بأننا نستغرق وقتاً أطول من اللازم للوصول إلى نهر عيشة.

بعد عشر دقائق، كان الاثنان لا يزالان هادئين. أما أنا فبدأت أضرب أخماساً بأسداسٍ وخُيّل لي بأننا نعبر أوتوستراد المزة. للحظةٍ، أردت سؤال من معي عن وقت وصولنا، وسبب تأخرنا، ولكنني عدلتُ عن سؤالي؛ فلم أكن أريد أن أبدو غبياً في مهمتي الأولى. سنصل بالتأكيد بعد قليل. وبالفعل بعد قليل خففت السيارة سرعتها ودخلت في حارة ثم توقفت، نزلت القائدة وفتحت لنا الباب الخلفي:

- تفضلوا، وصلنا. لا تنسوا السكوب ( نقّالة بلغة الهلال)

نزلت فوجدت نفسي بمنطقة أعرفها جيداً، مشروع دُمّر!

- لمَ أتينا إلى المشروع؟. سألتُ باستغراب.

- عيشة ساكنة فوق في هذه البناية. احمل السكوب مشان ننقلها.

اااااه..المهمة ليست (نهر عيشة) وإنما (نقل عيشة)!! لم أتمكن من حبس ضحكة لم يفهمها من معي وبالطبع لم أشرح سببها.

دخلنا إلى بناء وصعدنا ثلاث طوابق, قرعت القائدة على أحد الأبواب ففتحت بعد لحظات عاملة فليبينية  صاحت مباشرة عندما رأتنا:

- هلال! ماما! هلال!

- تفضلوا تفضلوا. نادت ربة المنزل إذ أتت لاستقبالنا بوجه بشوش.

-وينا عيشة؟ سألت القائدة.

- في الغرفة تفضلوا الله يعطيكم العافية.

دخلنا إلى غرفة فيها تخت كبير وعليه كانت امرأة قصيرة نحيفة ممددة على ظهرها بدت ليَ كغصنٍ جاف، السحنة الترابية في وجهها تفضح قصوراً كلوياً مزمناً.

-كيفك عيشة؟ نادت القائدة دون جواب. بدت لنا عيشة المسكينة متغيمة الوعي, دونما تأخير جهزنا السكوب وما إن كدنا نلمسها حتى بدأت بإطلاق آهات من أعماقها اخترقتنا. لم تكن عيشة تزن شيئاً يذكر الأمر الذي ساعدنا بإنزالها عبر الدرج دون أن نحركها ونؤلمها كثيراً. أما في السيارة فكانت كل مستقبلات الألم في جسد عيشة واعية وحاضرة أمام أي مطب أو انعطاف, وكانت بين الحين والآخر تنجح في تمرير دعاء لنا بين آهاتها: اااااااه..لله يوفقكووون.. الله يحميكوون.. اااااه.

- يالله خالة هانت، الله يخفف عنك.


وصلنا بعد وقت بدى أطول بكثير مما كان عليه فعلاً إلى مشفى الأسد الجامعي وتركنا عيشة تحت رعاية الممرضات اللواتي كن يعرفنها جيداً في قسم غسل الكلى.


وهكذا انتهت مهمتي الأولى التي تبين أنها ليست كما توقعت وعدنا إلى الزاهرة دون أن يحدث أي من السيناريوهات الخطيرة التي كان خيالي الواسع يسممني بها.


في الساعة الثانية ظهراً كنت أطل من جديد على دمشق من علٍ، النافذة مفتوحة، بالتأكيد كانت أصوات الباعة قد بلغت ذروتها في تلك الساعة المزدحمة، لم أعرها انتباها، ففي رأسي كان يتردد دعاء عيشة فقط.


بالطبع لم تكن كل مهمات الهلال الأحمر بهذه البساطة ولم يكن لجميعها نهايات سعيدة كهذه خصوصاً في سورية ما بعد 2011.

فبدءاً من هذا التاريخ وحتى أيلول عام 2016 سقط 54 متطوعاً وموظفاً في الهلال الأحمر العربي السوري أثناء تأديتهم مهامهم الإنسانية (حسب أرقام الهيئة الدولية للصليب الأحمر).

وأخيراً انضم لهذه القافلة متطوعون آخرهم كان حازم دوّارة. هؤلاء جميعاً رحلوا وهم يحاولون إنقاذ أرواحٍ في ظروف مستحيلة. لروحهم ولروح عيشة التي رحلت أيضاً تحية.

7BD4C013-56C4-4BD2-8ABC-2E18D8D92060
عبد الرافع مشوح

طبيب سوري مقيم في ألمانيا، مهتم بالأدب والفلسفة ومتابع للقضايا الإنسانية والسياسية المتعلقة بالمصير السوري.