المهزومون يكتبون التاريخ

14 ابريل 2019
+ الخط -
على غرار تجّار الحروب الذين لا تزدهر تجارتهم إلا على آلام الشعوب. ثمّة، أيضًا، تجّار الهزائم الذين يتنطّحون لكتابة التاريخ بحبر الكآبة، وتحميل الطرف المهزوم وزر انخراطه في معارك "دون كيشوتية"، حسب زعمهم، وهؤلاء لا يكتبون في الواقع، بل يلومون ويقرّعون، ولا تبرز حناجرهم إلا مع نعيق الغربان التي تنتظر نهش الجثث، عقب انقشاع غبار المعارك.
والحال أنه يصعب تصنيف الطابور الذي تقف على خطّه هذه الفئة؛ فهم لا يندرجون ضمن فئة الطابور الخامس الذي يضم جواسيس ما قبل المعركة، ممن يقتصر عملهم على نقل المعلومات عن الخصوم. أما الفئة المعنية بحديثي، فقد ينطبق عليها تصنيف جواسيس "ما بعد المعركة"؛ وخطر هؤلاء أشدّ وأبلى؛ لأنهم يعملون على تكريس الهزيمة وتمتين جذورها؛ لتصبح حالةً نفسيةً عامةً، تسري في مركّبات الشخصية، وتغدو جزءًا عضويًّا فيها، غير أن المعضلة الكبرى في هذه الفئة أنها صعبة التعيين والتحديد، ولا تعمل وفق نهج معين، فهي متغلغلة في كل الطبقات، من الحاكم إلى بائع البوظة، مرورًا بالأسرة ذاتها، والأخطر أن كثيرًا منها لا يقصد كتابة التاريخ، لكنه يفعل من حيث لا يدري.
عمومًا، تبدو المرحلة العربية الراهنة تربةً خصبة لكتبة الهزائم، حكامًا ومحكومين، وفي مقدمة الحكام رؤساء مثل عبد الفتاح السيسي، وأمير مثل محمد بن سلمان وخليله محمد بن زايد، وثمّة "فراطة" أخرى بالتأكيد، على غرار وزير خارجية البحرين وسواه، إضافة طبعًا إلى حكام آخرين لا يكتبون الهزيمة، بل يفعلونها بصمتٍ وبلا ضجيج، لأنهم من الفئة المؤمنة بمقولة "واستعينوا على قضاء هزائمكم بالكتمان".
لو تتبعنا الشخصية السيساوية، مثلًا، لوجدناها تحمل كاريزما الهزيمة في ملامحها؛ لأنها قامت أصلًا على اختطاف النصر الذي حققه الشعب المصري في ثورة ربيعه؛ بانقلابها المشؤوم، محيلةً النصر إلى هزيمة أقسى مما كان سائدًا في حقبة حسني مبارك، ففي خطابات السيسي وتعليقاته تفوح رائحة التيئيس من ثورات الربيع كلها، على الرغم من أنها كانت سببًا غير مباشر في بلوغه سدة الحكم التي اغتصبها من سلفه محمد مرسي، بل ويذهب إلى تحذير الشعب من مجرّد التفكير بتكرار ثورة يناير 2011، وكأنه يبتغي إيصال رسالةٍ قوامها أنه هو خاتمة الثورات ومنتهاها، وبأن ثورات الربيع لن يتجاوز حصادُها بساطير العساكر، مهما استفحل هديرها. وعلى جهة خلّان السيسي ومريديه، يتعملق مروجو هزائم آخرون، من كتابٍ وإعلاميين وممثلين مصريين، يروّجون خطاب الهزيمة وزرع الإحباط واليأس في شعبٍ كان يرى في ثورة يناير طوق نجاته الوحيد من جحيم الاستبداد.
وعلى الطابور ذاته، يبرز محمد بن زايد مدوّنًا حصيفًا لزمن الهزيمة، والإعلاء من شأنها، كيف لا وهو عرّابها الأول الذي جعل همّه الرئيس إفشال ثورات الربيع العربية، ووأدها في مواضع اندلاعها، واستطاع أن ينشئ حلف أبو ظبي لهذه الغاية، ويضم إليه الرياض والمنامة والقاهرة، وكان من أفضاله حصار قطر أيضًا، وتسهيل مهمة الرئيس ترامب في تمرير صفقة القرن، والقبول بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل العلاقات السرية مع الكيان الصهيوني من السرّ إلى العلن، على قاعدة أن إسرائيل غدت حقيقة واقعة، وعلى المهزوم أن يعترف بانتصارها.
الأخطر بين كتبة الهزائم هم الفئات الشعبية التي تتبنّى مثل هذا الخطاب، وما أكثرها، على غرار من يرى في ثورات الربيع مؤامرة خارجية، وأن الأفضل أن يتآلف الشعب العربي مع جلاديه، ويتقبّل الطغيان والاستبداد. ومنهم، أيضًا، من يرى في مقارعة الصهاينة معركة خاسرة لا جدوى منها، ويقدّم النصائح للشعب الفلسطيني أن يكفّ عن المقاومة، ويقبل التعايش مع المحتلّ، بل ويُبدون الأسف على الشهداء الذين "أضاعوا زهرة شبابهم سدى".
قلنا هذا هو زمن كتبة الهزائم، غير أن ما لا يدركه هؤلاء أن تاريخهم الذي يدوّنونه الآن يخصّهم وحدهم، ولا شأن لثورات الربيع به. أما الشهداء فلا يكتبون التاريخ، لأنهم لا يمتلكون ترف الوقت والكسل للتدوين، بل يتركون لدمهم أن يدوّن ما يشاء، وأن يُخرس من يشاء.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.