المهرج

08 ابريل 2014
+ الخط -

كلّ ظهيرة، يرتدي ملابس العمل الثقيلة. طبقات النايلون تلهب جسده، وشعر الصوف الغزير يشعل نخاعه، لكنه يبدأ العمل كآلة صمّاء.
ينظّف ساحة العرض، الحلبة والمقاعد. يمسح الأبواق والطبول. ينفخ البالونات.
يسمع صوتها في قاع قلبه: "هذه بالونة لانا". يقدّم لها البالونة. يسحبها الهواء بعيداً. يد لانا لم تعد هنا.
يهمّ بملاحقة البالونة علّها تأخذه معها. يراقبها ترتفع في السماء، حيث علّقت لانا ابتسامتها.
لكنّه يخشى نظرات المدير المراقِبة. لن يصدّق أحدٌ أنه بعد عشرين عاماً لا يزال يحبس دموعه خلف قناع مبتسم.

يدخل غرفة التبرج. يرسم بأحمر الشفاه ابتسامة عريضة حول فمه.
يعيد الأسئلة ذاتها التي يراها في مقاعد الجمهور كلّ مساء: "لو عاشت لانا هل كانت ستُطعم حبيبها حلوى "غزل البنات" بينما هو يضمّ خصرها برفق؟"
يضع كرة من الاسفنج البرتقالي فوق أنفه. يرسم دائرة حول كلّ عين. يزيـّنها بألوان قوس قزح.
"لو عاشت لانا هل كانت ستتزوّج؟ وتنجب؟ وتمنحني الأحفاد؟".
يعيد ترتيب الشعر الذهبي الكثيف. تهرب دمعة منه، فيسارع إلى التقاطها قبل أن تذيب ألوان وجهه. البكاء ليس مسموحاً أثناء العمل. ليس متاحاً أثناء النوم. البكاء محرّم منذ عشرين عاماً.
"لو عاشت لانا هل كانت ستصحب أطفالها إلى السيرك؟ وعروض المهرّجين؟"

أطفال كثيرون أتوا الليلة. هل بينهم من يشبهها؟ هل بينهم من له ضحكتها؟
في المقاعد الخلفية ثلاثة أطفال ينادونه. لا أحد يبنهم يشبهها. لكن المرأة الشابة التي تتوسّطهم تنظر إليه بعيني لانا حين اقتادها المسعفون إلى المستشفى.
نظرة الاستنجاد تلك لا يخطئها، فهي لا تفارق جفنيه، كلما رمش يراها، كلما أراد النومَ يتوسّدها.
تحاول الشابة أن تبدو سعيدة. تشير إلى أطفالها كي يتبعوا المهرّج والكرات المتراقصة في الهواء.
من بين الكرات القافزة يرى أن الشابة منهكة، تتماسك بجهد، تشدّ يد طفلتها كي تتوازن، كي لا تقع عن حبل فوق هوة مرعبة.
ثم يأتي رجل يحمل حلوى "غزل البنات"، يوزّعها على الأطفال وأمّهم. يضع يده حول خصرها، فتهرم فجأة، ينحني كتفاها، تزداد التجاعيد حول فمها وعينيها.
الحرّ شديد في خيمة السيرك. الجمهور يشتكي، ولكنّ صوت الموسيقى عالٍ، يطغى على كلّ شيء، حتى بكاء المرأة الذي لا يريد أحد سماعه، ولا هي نفسها.
لا يبدو أنّ أحداً يراها، وحده المهرّج يفعل. يريد الاقتراب منها ومسح دموعها. الدموع التي لا يراها الآخرون هي الأوجع.
يجلس الزوج وأولاده يضحكون، أما هي فتنسحب إلى الظلمة. تهدأ أنفاسُها. تُغمض عينيها وتنام.
تنهمر الضحكات والورود والدراهم على المهرج... يحاول جمعها كلها.
الليلة، لن يتركها لزملائه كما فعل خلال السنوات الماضية.
خرج الجميع وبقيت المرأة منسية في مقعدها المظلم.
كانت تغفو ودمعة وحيدة ترتجف بين جفنيها المطبقين.
وضع الورود حول قدميها، الضحكات في حجرها، وبالقطع المعدنية رسم قلباً.
لم يذهب إلى المقطورة لينام. جلس في مقعد قبالتها وأغمض عينيه.
خطّت الدموع وجهه، ورسمت مطراً ملوّناً تساقط فوق خدّيه وعنقه.
هزّته يد رقيقة. فتح عينيه ليرى ابتسامة يعرفه وبريق عينين لا يخطئه.
"تأخّر الوقت، عُدْ إلى المقطورة، ستكون لانا في عالم أفضل".



* كاتبة من لبنان

دلالات
المساهمون