على الرغم من أن فيلم "الممر" عرض في دور السينما خلال يونيو/حزيران الماضي، إلا أن الدولة المصرية قررت عرضه تلفزيونياً بشكل سريع للغاية، كجزء من احتفالاتها بذكرى حرب السادس من أكتوبر. ورغم التسهيلات الضخمة من قِبل الجيش والدولة و100 مليون جنيه وُضِعت كميزانية للفيلم؛ فإن "الممر" لم يفرق كثيراً عن الأفلام الحربية/الوطنية الأخرى التي تناولت حرب أكتوبر، إذ احتفظ بنفس مساحة الخطابية والبروباغندا وتأثير ما هو سياسي على ما هو سينمائي. ما هي الأسباب التي جعلت من "الممر" فيلماً كرتونياً؟ ربما تكون ذاتها الأسباب التي ستعيق إنتاج أي فيلم حربي مصري جاد في زمنٍ قريب.
أبطال خارقون وعدو شيطاني
ربما تكون كل الأفلام التي تناولت الحرب في تاريخ السينما العالمية تحركت من منظور أن الحرب شريرة وقاسية ومدمّرة للبشر، حتى الأفلام ذات الصبغة الوطنية، أو تناولت حادثة "نصر" كانت تحافظ على رعب تجربة الحرب وضعف البشر أمامها.
فيلم "الممر" على العكس، وككل الأفلام الحربية المصرية، يُعامل الحرب كحالة انتصار مُطلقة على عدو، ممتلئة بالخطب والشعارات الرنّانة عن الوطن والأرض والوِحدة، من دون أي مساحة من الخوف أو الألم أو الضعف البشري العادي، فالجنود هم "أبطال" مُطلقون وخارقون للطبيعة، يقفون- حرفياً- أمام الطائرات، مثل شخصية "هلال" التي جسدها محمد فرّاج في الفيلم، أو يعطون دروساً في الوطنية والقوة للضابط الإسرائيلي حتى وهم في حالة أسر مثل شخصية "محمود" (أحمد فلوكس)، كما أنهم يرفهون عن أنفسهم بالغناء وهم يسيرون وسط الصحراء الملتهبة؟ ولا مانع أبداً من قصة حب تنتهي بالزواج! أبطال "الممر" خارقون لدرجة أنهم لا يشعرون حتى بالجوع عند نفاد المؤن منهم!
هذا التناول كرتوني وهزلي جداً للحرب ومن حاربوا فيها، ويقلل حتى من البطولات الحقيقية للجنود المصريين أثناء حرب الاستنزاف أو أكتوبر 1973.
مهمة غير واضحة وتفاصيل هزلية
في الأفلام الحربية أيضاً نحتاج إلى مهمة محددة، أبعادها الجغرافية واضحة للمشاهد، ومخاطر محتملة، وهي قطعا- كأي مهمة- لها خسائرها. ومن المدهش أنه مع الإرث الكبير من العمليات الحربية التي قام بها الجيش المصري أثناء حرب الاستنزاف ومذكرات الجنود في كُتبٍ منشورة منذ زمن عن تفاصيل دقيقة لما حدث، إلا أن شريف عرفة في "الممر" يقرر اللجوء إلى حكاية خيالية بالكامِل، من دون أبعاد ومؤثرات وخسائر، وبتفاصيل غير قابلة للتصديق، وتجعلك تتساءل لو كانت الحرب بتلك السهولة والعدو بهذا الضعف والسذاجة فلماذا ظلت الحرب دائرة لست سنوات بعد هزيمة 1967 من الأصل؟
هناك ثلاث عمليات نراها أثناء الفيلم؛ في الأولى تقوم كتيبة مصرية بتحرير الأسرى المصريين من داخل معسكر إسرائيلي في سيناء، وهي معلومة خاطئة على المستوى التاريخي وتبيّن جهل صناع الفيلم وعدم قيامهم بالحد الأدنى من البحث المطلوب؛ لأن الأسرى نُقِلوا للداخل الإسرائيلي فور القبض عليهم ولم يبقوا في سيناء. لكن في "الممر" تقوم الكتيبة بتحريرهم ثم تفجير المعسكر بالكامل من دون إصابة جندي مصري واحد، بل وأخذ قائد المعسكر الإسرائيلي كأسير! ثم في العملية الثانية يحتمون داخل مبان متهدمة في سيناء ويواجهون كتائب إسرائيلية ويدمرونها بالكامل، ثم العملية الثالثة- الأكثر هزلية- وهي عودتهم إلى الأراضي المصرية واختراقهم لصف دبابات إسرائيلي وتدميرها من دون أي إصابة! لماذا اللجوء إلى خيال ضعيف إلى هذا الحد والتعبير عن خوارق الجيش المصري بتلك الكرتونية إن كانت الوقائع والأحداث الحقيقية تحمل بالفعل ما هو مشرّف وبطولي وصادق؟
رسائل سياسية عن اللحظة الحاضرة
من غير الممكن تحليل هذا الفيلم أو النظر إلى سبب إنتاجه والصورة التي خرج عليها من دون التعامل مع السياق السياسي الحالي في مصر؛ والذي يحكم فيه الجيش سيطرته على كل شيء تحت مظلة واسعة من الطوارئ الدائمة والحرب التي لا تنتهي. وفي لحظة كتلك، فإن اللجوء لأكتوبر كلحظة مؤسسة لشرعية النظام العسكري الحاكم؛ منذ السادات ثم مبارك وصولاً إلى عبد الفتاح السيسي الآن، هو أمر منطقي.
لكن المهم والخطير أيضاً هو كيف عبر الفيلم، الذي أنتج تحت مظلة رسمية وبإشراف كامل، عن صورة "الحاضِر" كما تراه الدولة/الحكم العسكري، تحديداً من ناحية المنظور المحتقر للمدنيين، الذين يظهرون في الفيلم إما ساخرين ولا يدركون بطولات الجيش أو الحرب المستعرة التي يخوضها فيتعرضون للضرب الجسدي المُبرح في مشهد مُهين جداً يعتدي فيه الضابط عليهم داخل سنترال لأنهم تحدثوا عن النكسة والانسحاب، أو أنهم- أي المدنيين- لاهون وعابثون، كالصحافي الذي يجري وراء "الراقصات" (ما يمكن تحليله كانعكاس لرؤية القائمين على الحُكم لكل من الفن أو الصحافة) ولا يتغير إدراكه إلا مع ذهابه للحرب وتفاعله مع الجنود الخارقين الذين يسخرون من خوفه وهيئته طوال الوقت.
أسباب الضعف تلك تتعلق كلها بالجانب "الأيديولوجي" والسياسي والدرامي من تناول الفيلم للحرب الأكبر في التاريخ المصري الحديث، من دون أي حديث عن جوانب تقنية أو لها علاقة بتنفيذ المعارك، رغم عيوبها أيضاً، لأن هذا في الحقيقة عنصر أقل أهمية مهما تفوّق، فالمهم أولاً هو كيف تتعامل مع الشخصيات كبشر وليس كرموز، والوقائع الحربية كمعارك وليس ساحة بطولة واحتفال، وعدم تمجيد الجيش أو العسكرية على حساب احتقار المدنيين، وتلك الأمور افتقدها تماماً فيلم "الممر"، فخرج كرتونياً ومملاً وضعيفاً.