المليارديرات يحكمون العالم

03 اغسطس 2020
جيف بيزوس أغني مليارديرات أميركا وصديقته بإحدى حفلات هوليوود
+ الخط -

باتت أسواق المال وحكومات العالم يسيطرعليها أصحاب المال، الذين يملكون مئات المليارات من الدولارات ويستأجرون أفضل الخبرات ويشترون أسرع الكومبيوترات. كذلك فإن هؤلاء الأثرياء باتوا قريبين من مراكز القرار المالي والنقدي والسياسي في الاقتصادات الكبرى. وهذا القرب يمكنهم من الحصول على المعلومات التي تحدد مسارات السوق والتنبؤ بتوجهات الأسهم والسندات، والمتاجرة على بيّنة من تحقيق الأرباح، وليس المخاطرة بثرواتهم مثل صغار المستثمرين. 

وبالتالي باتت لديهم القدرة على الدخول السريع في السوق المالي، والتأثير في الأسعار، والخروج السريع منه وتحقيق مئات ملايين الدولارات من الأرباح، بينما تتبخر ثروات صغار المستثمرين.

ويلاحظ أن مليارديرات الولايات المتحدة حصدوا في ثلاثة أسابيع فقط، بين مارس/ آذار وإبريل/ نيسان الماضي، أكثر من 280 مليار دولار، مستفيدين في هذه الثروة الهائلة من تدفق التريليونات التي ضخها مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) في السوق.

كذلك جمعت صناديق إدارة الثروة الأميركية في هذه الفترة تريليون دولار من السيولة، ونمت كذلك سيولة المصارف الأميركية بتريليوني دولار، وذلك في وقت ينزف فيه الاقتصاد والمواطن الأميركي.  

وهذا يعني ببساطة أن هذه المصارف والصناديق والمليارديرات تتزايد ثرواتهم على حساب السواد الأعظم من الشعب الأميركي. وبالتالي باتت سوق المال الأميركية هي التي تصنع القرار المالي، إذ إن هبوطها المريع في بداية مارس الماضي هو الذي أجبر صنّاع السياسة النقدية والمالية على التدخل بكثافة في السوق وليس حاجة الاقتصاد الأميركي.

وتبعاً لذلك، باتت السياسة النقدية والمالية الأميركية تتحرك وفقاً لما يحقق أرباح المليارديرات وزيادة ثرواتهم، وليس تبعاً لاحتياجات الاقتصاد الكلي وخلق الوظائف. إذ إن جلّ أموال التحفيز الأميركية ذهبت للمصارف والشركات وليس للمواطن، بدليل أن  المليارات هذه التي حققتها المصارف جُمعت في وقت ارتفعت فيه نسبة البطالة في أميركا إلى نحو 40 مليون عاطل، وفي وقت تجاهد فيه الحكومة الأميركية لخلق وظائف جديدة.

وبالتالي، فإن أداء سوق "وول ستريت" لم يعد المرآة التي يمكن من خلالها قياس أداء الاقتصاد الأميركي كما كان قبل عقود مضت. فالسوق تحولت إلى ما يشبه "كازينوهات القمار"، ولم تعد سوقاً للنمو والانتعاش الاقتصادي وتوسيع الصناعات وتمويل الأفكار الجديدة، مثلما كانت في بدايتها. وهذا ما جعل الولايات المتحدة متخلفة صناعياً وتقنياً عن دول تعدها ناشئة، مثل الصين ودول النمور الآسيوية، بينما تتقدم في عدد المليارديرات ومعدل الثروات الفردية بمراحل عن بقية العالم. 

لقد بات للأغنياء خلال العقود الأخيرة القدرة على إجبار صناع السياسة النقدية والمالية على تلبية رغباتهم دون أدنى اعتبار لمشكلات الاقتصاد الكلي، وإن لم ينفذ الساسة رغباتهم، فسيفقدون مناصبهم التي وضعوهم فيها عبر تمويل حملاتهم الانتخابية.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

لقد تضخمت في السنوات الأخيرة ثروة المليارديرات في أميركا، وباتت تفوق 3.5 تريليونات دولار. فهم من يملكون الشركات والأعمال التجارية، ويحددون مسارات الاقتصاد ومعدلات البطالة وخلق الوظائف، وباتت الحكومة ومؤسساتها خادمة لأطماعهم ونزواتهم، وبالتالي اختفت المعايير الأخلاقية للحكم، وتراجعت مفاهيم العدل والمساواة في الحقوق والواجبات ومفهوم التضحية من أجل بناء الوطن.

وتركز هذا المفهوم الأناني في الولايات المتحدة بعد صعود الملياردير دونالد ترامب إلى السلطة في عام 2017، الذي يغرّد يومياً عن مؤشرات "وول ستريت"، ولا يهتم بمؤشرات البطالة والتفاوت الطبقي وتراجع دخول الطبقة الوسطى. 

وفي عهد ترامب تزايد التفتّت وتصدع النسيج  الاجتماعي في الولايات والأحياء في المدن الكبرى، حتى وصل إلى هذا الصراع العرقي البغيض الذي تبدّى بقتل المواطن الأميركي جورج فلويد بهذه البشاعة خنقاً تحت ركبة شرطي أبيض، وما تلاه من احتجاجات. 

لقد انتهى في أميركا خلال السنوات الأخيرة مفهوم المواطنة الحقيقي، وأصبح من يملك الثروة يحدد مرجعيات السلطة والقانون. فسياسات الاحتياط الفيدرالي الأميركي منذ أزمة المال (2008-2009)، خلقت اقتصاداً وهمياً يقوم على قياس النجاح الاقتصادي بالنمو في أسواق المال، وليس النمو في القطاعات الإنتاجية والوظائف. إذ ضخت سياسة الفائدة الصفرية والمنخفضة جداً تريليونات الدولارات في جيوب الأثرياء وشركاتهم على حساب المواطنين أصحاب الادخارات البسيطة والمعاشات.

وتبعاً لذلك، تقلصت الطبقة الوسطى في أميركا وأوروبا، وتزايد عدد الفقراء، وحدثت اختلالات مريعة في الدخول، باتت واضحة في الاحتجاجات السياسية والعرقية والطبقية المتنامية في أميركا وأوروبا، وتهدد تدريجاً الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، كما تهدد بقاء هذه الديمقراطيات في المستقبل.

وبات العديد من المواطنين في العالم الغربي، وخصوصاً من كبار السن وأفراد الطبقة الوسطى، الذين يعتمدون في معيشتهم على الدخل الآتي من الوظيفة، وعلى العائد من المدخرات، يعانون شظف العيش.

فالأثرياء لا يهمهم التماسك الاجتماعي والبناء السياسي، بقدر ما يهمهم تضخم حساباتهم بمليارات الاحتياط الفيدرالي. ومن يملك مئات المليارات، فقد لا يكون بحاجة إلى وطن، إذ إنه يستطيع شراء جزيرة في أي مكان في العالم، ولا يحتاج إلى جواز سفر، إذ إنه سيُستقبَل بالأحضان من قبل أية دولة في العالم، كذلك فإنه لا يحتاج إلى شرطة ما دام يستطيع استئجار أهم الكفاءات الأمنية لحراسته. وبالتالي اختفت معايير الدولة والقانون واحترام الدستور التي أُسست عليها الولايات المتحدة.

ورغم هذه الاختلالات المتنامية في الثروات والدخول في أميركا وأوروبا، التي تهدد الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، ورغم تزايد الدراسات الصادرة عن كبرى مؤسسات الفكر والجامعات حول مخاطرها، فإن القليل من الساسة ينتبهون إلى الدمار الذي تحدثه السياسات النقدية للاقتصاد والاستقرار العالمي، وحتى إذا انتبهوا، فإنهم لن يفعلوا شيئاً.

المساهمون