تتجه المملكة العربية السعودية، في عهد خادم الحرمين، الملك سلمان، نحو إحداث نقلات سريعة في قطاع الطاقة، ولكن هذه النقلات السريعة لن تمس بالتأكيد الثوابت التي وضعت منذ الثمانينات والخاصة بلعب المنتج الذي يحدث التوازن بالسوق النفطية، عبر تغطية أي عجز في الطلب العالمي على النفط. ولا تزال المملكة تستطيع لعب هذا الدور بما تملكه من قدرات إنتاجية فائضة تراوح بين 2.4 و2.7 مليون برميل يومياً. وربما سيعمل الملك سلمان على تسريع الخطط الخاصة برفع إنتاج المملكة إلى 15 مليون برميل يومياً خلال السنوات المقبلة. لأن الطلب النفطي العالمي، في سنوات ما بعد 2020، سيعتمد بدرجة رئيسية على النفط السعودي والخليجي، بعد انتهاء فقاعة النفط الصخري.
ثوابت سعودية
تعد سياسة خلق سوق نفطية متوازنة من حيث العرض والطلب النفطي، من ثوابت السياسة السعودية التي تبنتها طوال عقود لضمان استقرار السوق النفطية. وهي سياسة شارك الملك سلمان في أسسها، وهو أحد واضعي أركانها، بحكم المناصب التي تقلّدها في الحكم قبل توليه المُلْك أو حتى بحكم وضعه المتميّز بين أفراد العائلة السعودية، كمرجع في المشورة، منذ أن كان أميراً للعاصمة السعودية الرياض.
وبالتالي يرجح خبراء النفط الغربيون أن تواصل السعودية في عهد الملك سلمان العمل على استقرار سوق النفط العالمية كسياسة ثابتة حافظت عليها المملكة في كل العهود وأصبحت من المرتكزات الأساسية في السياسة السعودية أكسبتها احتراماً دولياً، كدولة مسؤولة تدبّر الطلب العالمي وتراقب مستقبل الاستهلاك وتبني خطط الإنتاج والتوسّع لأكبر وأهم سلعة استراتيجية في العالم، بما يحقق التوازن.
وحسب خبراء نفط واقتصاديين، بما في ذلك الفاتح بيرول، كبير خبراء وكالة الطاقة الدولية، فمن غير المتوقع أن يجري الملك سلمان تغييراً في هذه السياسة، كما يستبعد محللون كذلك أن يجري الملك سلمان أية تغييرات في قرار السعودية بعدم خفض الإنتاج لمساعدة أسعار النفط على الارتفاع، لأن قرار"أوبك" الأخير، وإن كان في عهد الملك الراحل، الملك عبد الله، رحمه الله، فإنه كان بمشورة وموافقة الملك سلمان. فالكل يعلم أن الملك عبد الله رحمه الله، كان مريضاً في الفترة الأخيرة وأن الملك سلمان كان وقتها يشرف على تدبير شؤون الحكم. وبالتالي، فإن قرار منظمة البلدان المصدرة للنفط، "أوبك"، الأخير بالابقاء على سقف الإنتاج دون تغيير عند 30 مليون برميل يومياً، الذي اتخذ بفيينا في نوفمبر/ تشرين الثاني، كان بمشورة الملك سلمان الذي كان ولياً للعهد حينها والقائم الفعلي بشؤون الحكم في ظل مرض أخيه.
وعرف عن القيادات السعودية أنها لا تستعجل في اتخاذ القرارات الخاصة بالقضايا الاستراتيجية، كما يلاحظ أن قرارعدم خفض إنتاج "أوبك"، اتخذ بعد فشل المشاورات مع العديد من الدول ذات الثقل الانتاجي داخل وخارج "أوبك"، بما في ذلك روسيا التي زارها وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، وتشاور مع مسؤوليها حول السياسة النفطية. وحتى قبل اجتماع فيينا، لم ترفض المملكة السعودية الاستجابة لخفض الإنتاج، إذا وافق المنتجون خارج "أوبك" على خفض مماثل. ولكن المنتجين خارج المنظمة، وعلى رأسهم روسيا، رفضوا خفض الانتاج، وبالتالي رفضت "أوبك" بقيادة السعودية، خفض الانتاج من جانب واحد.
ويلاحظ أن الموقف السعودي بشأن عدم خفض الانتاج، نابع من رأي المملكة السعودية وباقي دول مجلس التعاون، "أن خفض المنظمة وحدها للإنتاج لن يفيد الاسعار، لأن أي خفض للإنتاج النفطي من جانب "أوبك" وحدها، لن يدفع أسعار النفط للارتفاع، ما دام هذا الخفض ستقابله عملياً زيادة في الانتاج من المنتجين خارج منظمة "أوبك". وبالتالي تكون محصّلة خفض إنتاج "أوبك" خسارة في حصتها من سوق النفط العالمي، التي سيكسبها آخرون خارج المنظمة، مثل روسيا ومنتجي النفط الصخري في أميركا وكندا. وربما إذا خفضت "أوبك" الانتاج، تنتهي إلى خسارة جزء من حصتها لمنتجي "أوبك" دون أن تحقق الهدف من الخفض، ألا وهو رفع سعر النفط. وبالتالي تكون السعودية والدول الخليجية قد خسرت من جانبين، خسرت جزءاً من حصتها بالسوق العالمية وخسرت معركة رفع الأسعار.
ومن بين الاسباب الأخرى التي جعلت المملكة العربية السعودية تتبنى موقف عدم خفض الانتاج والدفاع عنه، ويشير إليها خبراء غربيون، عدم ثقة المملكة في التزام المنتجين خارج "أوبك"، خاصة روسيا، بعهود خفض الإنتاج، ولدى المملكة تجارب سابقة في هذا الشأن. كما أن لدى المملكة مخاوف من تكرار سيناريو عقد الثمانينات من القرن الماضي، الذي كان الملك سلمان شاهداً عليه وأحد أعمدة السياسة السعودية وقتها.
ففي عقد الثمانينات من القرن المنصرم، اضطرت المملكة السعودية إلى خفض إنتاجها من 10 ملايين برميل يومياً، إلى حوالى 2.5 مليون برميل يومياً، ضمن مساعيها لرفع أسعارالنفط، ولكن دون جدوى، حيث واصلت الأسعار التهاوي حتى بلغت أقل من 10 دولارات للبرميل. من هذا المنطلق يمكن القول إن سياسة الملك سلمان على صعيد استمرارية المملكة في استراتيجية استقرار سوق النفط العالمية وتلبية أي نقص يطرأ في الطلب العالمي، ستكون ثابتة ولن يمسها التغيير، على الأقل في المنظور القريب.
5 قفزات متوقعة
على صعيد سياسات الطاقة السعودية الأخرى، فمن المتوقع أن يجري الملك سلمان مجموعة نقلات سريعة، أولها: ترشيد الاستهلاك المحلي للنفط في توليد الكهرباء وتقليل الهدرالسعودي للنفط الذي يقدّر سنوياً بحوالى 18 مليار دولار، حسب دراسة أخيرة أجرتها خبيرة الطاقة بالمعهد الملكي البريطاني، غلايدا لآن، وذلك بحساب سعر"50 دولاراً للبرميل".
وقد شرعت المملكة فعلياً في تطبيق هذه السياسة، عبر مجموعة إجراءات على صعيد التكييف والأدوات الكهربائية ومعايير البناء. وهي خطوة مهمة لأنها ستقلل من استهلاك البترول محلياً، وترفع من طاقة المملكة التصديرية. وتصدّر المملكة السعودية كميات من النفط تراوح 6.7 و7.3 ملايين برميل يومياً، وذلك مقابل معدل إنتاج يراوح بين 9.6 و9.8 ملايين برميل يومياً. وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من النفط السعودي يستهلك في توليد الطاقة. وبالتالي فمن المتوقع أن يضغط الملك سلمان على القائمين بهذا الشأن لتسريع خطوات ترشيد الطاقة.
أما النقلة الثانية المتوقعة، فستكون على صعيد التوسع في صناعة التكرير وشراكات المصافي مع الشركات الكبرى، سواءً في آسيا أو دول البريكس، التي من المتوقع أن يرتفع فيها الطلب على المحروقات خلال الفترة المقبلة. ومثل هذه السياسة ستكون مفيدة للمملكة، لأنها تصب في إطار إيجاد منافذ وعملاء ثابتيين لمبيعات النفط السعودي من جهة، وتعظيم الدخل السعودي من مبيعات الخامات، لأن هوامش أرباح التكرير ترتفع حينما تنخفض أسعار النفط الخام. وبالتالي ستضمن المملكة تحقيق أرباح كبيرة في فترات انخفاض أسعار النفط، من شراكاتها في صناعة التكرير. مثلما يحدث الآن بالنسبة لشراكاتها التكريرية مع شل في أميركا.
أما النقلة الثالثة المتوقع أن يتخذها العاهل السعودي الجديد، فتصب في تسريع كشوفات واستخراج الغاز الطبيعي، الذي تحتاجه المملكة بشدة على صعيد تلبية احتياجات توليد الكهرباء وصناعة البتروكيماويات وتوفير النفط لأغراض التصدير وصناعة التكرير من جهة، ومن جهة أخرى استخدام الغاز الطبيعي في حقن الآبار النفطية لزيادة إنتاجها أو الحفاظ على معدلات الإنتاج.
وفي هذا الصدد، يتوقع خبراء غربيون أن تحسن المملكة من الشروط في عقود كشوفات الغاز الطبيعي الحالية، حتى تتمكن من تحفيز شركات النفط العالمية للدخول بشكل أكبر في مجال كشوفات واستخراج الغاز الطبيعي بالمملكة. وكانت بعض الشركات الأميركية تأمل في الحصول على شراكات للطاقة في المملكة. ولكن يبدو أن هذا الباب سيظل مسدوداً في عهد الملك سلمان.
أما النقلة الرابعة: فتتمثل في تحديث أكبر للصناعة النفطية، عبر نقل التقنية الأميركية والتوسع في المجالات البحثية مع معاهد البحوث العالمية، خاصة معهد "إم آي تي" وهارفارد، ومجموعة معاهد أبحاث مشهورة في مجالات الطاقة، حتى تتمكن أرامكو من تقليل أكلاف الانتاج النفطي وزيادة حجم الاحتياطات النفطية القابلة للاستخراج.
وحسب الدراسة التي أجراها البروفسور ليوناردو موغيري من جامعة هارفارد، قبل عامين وصدرت في كتاب "النفط: الثورة المقبلة"، فإن احتياطات النفط القابلة للاستخراج بالحقول السعودية حسب التقنيات المستخدمة حالياً، تقدّر بنسب تراوح بين 28 إلى 35% من الاحتياطات الفعلية المتوفرة في هذه الحقول في حال استخدام التقنيات الحديثة.
ولاحظ موغيري أن التقنيات الأميركية الحديثة، مثل تقنيات "الحفر الأفقي" وغيرها، حينما طبقت على بعض الآبار التي نفد إنتاجها في أميركا، وأغلقت وحسبت في عداد الحقول الناضبة، عادت للإنتاج بقوة ولا تزال تنتج حتى الآن. ولدى المملكة 200 حقل نفطي، ولكن معظم الإنتاج ينحصر في ثماني حقول ضخمة. وبالتالي، فهنالك فرصة حقيقية لزيادة حجم الاحتياطات القابلة للاستخراج في عهد الملك سلمان من مستوياتها الحالية البالغة 261 مليار برميل.
أما الخطوة الخامسة والأهم، فتخص سياسة أميركا تجاه البرنامج النووي الإيراني: فمن المتوقع أن تكثف السعودية في عهد الملك سلمان ضغوطها على أميركا، حتى لا تسمح لإيران بتطوير البرنامج النووي، لأن حصول إيران على القنبلة النووية، سيعني أن النظام الفارسي بطهران سيكون قادراً على إغلاق خليج هرمز الذي تعبر من خلاله 17 مليون برميل نفط يومياً تصدّر إلى الأسواق العالمية، إضافة إلى حاويات الغاز الطبيعي المسال.
ومعظم الشحنات النفطية المصدّرة تأتي من السعودية ودول الخليج. ويقول خبراء طاقة في لندن: "في حال حصول إيران على القنبلة النووية، فستتخذ منها سلاحاً رادعاً لتنفيذ تهديدات إغلاق خليج هرمز والتحكم تلقائياً في صادرات النفط السعودي والخليجي وكذلك الغاز المسال. ومثل هذا الأمر سيمنح إيران ميزة تفاضلية ضخمة في التوازن الاستراتيجي ويمكّنها من الهيمنة على مجريات السياسة بدول الخليج والشرق الأوسط ككل. وبالتأكيد هنالك جوانب سياسية أخرى لامتلاك إيران للسلاح النووي ولكن لا يحتملها هذا التحليل.