ويعرّف باحثون "المقام العراقي" بأنّه لونٌ من الغناء القديم تصاحبه آلات موسيقية، ويتسم بطبيعة ارتجالية في الغناء والعزف على مختلف السلالم الموسيقية التقليدية بطريقة مضبوطة. ويصل عدد المقامات، بحسب الباحثين، إلى أكثر من ثمانين مقاماً.
ولا يُعرف أحد على وجه التحديد متى نشأ المقام، ولا إلى أي العصور تحديداً. وللباحثين في ذلك آراء مختلفة ومتضاربة؛ فثمة من يشير إلى قدمه واتصاله بحضارة بلاد الرافدين، وبين من يعتبره من ثمرات العهد العباسي، وآخرين يرجعونه إلى العصور التي تلت الغزو المغولي؛ لكن الجميع يتفق على ازدهاره وتطوره في القرون الأربعة الأخيرة في المراكز الحضرية الكبرى في العراق كبغداد والموصل والبصرة وكركوك.
وتحتفظ الذاكرة العراقية بأسماء رواد معاصرين ساهموا في إغناء الفن العراقي والعربي عبر ألحان مستوحاة من فن المقام، كان أشهرهم الملا عثمان الموصلي الذي يصفه باحثون بأنه واضع أسس الأغنية العربية الحديثة، وتتلمذ على يديه فنانون وموسيقيون من مصر وبلاد الشام كأبي خليل القباني وعبده الحامولي وسيد درويش وغيرهم، ولم تمنع خلفية الموصلي الدينية من أن يجاور اهتمامه بالموسيقى مع انشغالاته الدينية.
واقتبس كثيرٌ من الفنانين العرب أغاني من كلماته أو ألحانه، مع وضع بعض الإضافات عليها، فاشتهرت له أعمال أداها مطربون كبار كسيد درويش الذي غنى له "طلعت يا محلى نورها"، وفيروز التي ترنمت بأغنيته "زوروني كل سنة مرة"، وناظم الغزالي في "يا أم العيون السود"، وصباح فخري في "قدك المياس يا عمري"، وغيرهم كثيرون.
لكن الوضع اليوم يبدو مختلفاً، ففضاء العراق المزدحم بعشرات القنوات الغنائية، لا يجد متسعاً لهذا الفن الذي بدأ بالانحسار رغم محاولات إنعاشه من قبل فنانين ومثقفين، ورغم إنشاء مؤسسات لرعايته عرفت باسم "بيت المقام العراقي" في مختلف المدن، إلا أن هذه المحاولات جميعها لم تنل النجاح المطلوب، فهل المقام العراقي كبوتقة انصهرت فيها فنون العراقيين منذ القدم معرض للاندثار اليوم؟ سؤال يطرحه كثيرون ولا تبدو الإجابة عليه سهلة.
الناقد الموسيقي يحيى إدريس يقول لـ"العربي الجديد": "إن فن المقام حمل منذ نشأته بذور الفنون التي ازدهرت في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين، كما أنه اختزل ثقافات وفدت على العراق في العصر العباسي، وأعاد إنتاجها في شكل فنٍّ له قواعده وأبجدياته الصارمة، وظلّ بمثابة مرجعية فنية لكل المشتغلين بالصوت من قرّاء ومنشدين ومغنين، لكنه كما يبدو وصل إلى طريق مسدود اليوم بسبب ضعف الإقبال على تعلّمه وإهمال المؤسسات الإعلامية له، فلم يعد جاذباً للشباب كما هو الحال في السابق".
ويرجع إدريس الأسباب "إلى غياب الدعم الرسمي للمشتغلين به، والفوضى التي تعصف بالساحة الفنية العراقية، حيث أصبح باب الغناء مفتوحاً لمن يمتلك المال حتى لو كان عاطلاً عن الموهبة، كما أنه لا توجد قوانين أو قواعد تضبط السلوك المهني لممتهني الغناء حالياً، وهو ما دفع بالأجيال الجديدة للإقبال على فنون راقصة وسريعة الإيقاع، تاركين وراء ظهورهم فناً عريقاً".
ويشاطره الرأي في ذلك الملحن إياد العبيدي، إذ يعتبر "أن فن المقام فقد بريقه لدى الأجيال الفنية الشابة، ولعل أحد أهم أسباب ذلك هو التأثر بالموجات الفنية الوافدة، لا سيما الغربيّة منها، حيث هجر الفنانون الجدد التراث والألحان والآلات الموسيقية الشرقية، بل حتى الكلمات أصبحت غربية في مضمونها، علاوة على صعوبة دراسة هذا الفن التي تتطلب صبراً وطول نفَس لا يتمتع بهما أبناء جيل عصر السرعة". لكن العبيدي لا يعتقد أن هذا الفن سيندثر كما يعتقد بعضهم، لأنه ما زال له محبون ومهتمون وإن تقلصت مساحته الجغرافية وقلّ متابعوه.
ورغم كل ما يقال عن ضعف إقبال الأجيال الجديدة على المقام العراقي إلا أن بعض الشباب ما زالوا يجدون فيه ضالتهم، ومصطفى الزبيدي واحد من هؤلاء، فهو رغم دراسته للإعلام إلا أنه يجد نفسه أكثر في هذا الفن كما يقول، ويحرص مصطفى على إحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي عبر "المنقبة النبوية"، أو المديح الذي يؤدى بالمقام العراقي، ويقول الزبيدي: "رغم وجود كثير من الأسماء المهمة في عالم المقام اليوم كحامد السعدي وحسين الأعظمي وغيرهم؛ إلا أن معظم المتأخرين لم يضيفوا شيئاً كثيراً بعد جيل الرواد المعاصرين كمحمد القبنجي وعلي حسين الرجب وشعوبي إبراهيم... مع وجود محاولات متواضعة من قبل البعض لإعادة تقديمه في شكل جديد يناسب الأذواق المعاصرة".
ورغم اقتناعه بأن هذا الفن لن يندثر، فإن مصطفى الزبيدي يبدي أسفه للإهمال الذي يعانيه قراء المقام الشباب في ظل غياب اهتمام رسمي أو شعبي بهم، ويذكر أن منظمة اليونسكو فكّرت قبل سنوات في إنشاء معهد لرعاية هذا الفن، إلا أن سوء الأوضاع الأمنية وبعض المشاكل المالية حالا دون ذلك.
والسؤال الذي يطرحه كثيرون اليوم هو: كم سيصمد هذا الفن أمام موجات الغناء الحديث العاتية التي ترعاها مؤسسات وشركات ضخمة؟ سيما في واقع التخريب والتجريف الذي يطال آثار العراق وتاريخه ومكونات هويته الثقافية؟ ويبدو أن هذا السؤال ذاته قد تحوّل إلى ترف فكري في بلد تتقاذفه الأزمات السياسية ولا يأمن البشر فيه على مصائرهم.