المقامات الشرقية... رسمٌ بالنغمات وبالكلمات

25 أكتوبر 2019
يقيم المقام حالةً نفسية لدى العازف والمستمع (Getty)
+ الخط -
المقام في اللغة هو موضع القدم. كما هو أيضاً الدرجة والمنزلة. في الموسيقى، المقام هو سُلّم من ثماني نغمات مُحددة على نحو مُعين من الجوار والمسافة، والالتصاق والانفراج. يبدأ بنغمة أساس هي القرار، وينتهي بنغمة الجواب، أي بالعودة إليها، لكن في منسوب فوقي من علوّ الصوت. هو، إذن، متتالية من النغمات، تجمعها وتحكمها صيغة ثابتة من الأبعاد، تبدأ من نغمة لتعود إليها وتختُم بها.
المقام، أيضاً، إقامةُ حالة نفسية ومزاج خاص لدى العازف والسامع على السواء. كل صيغة معينة لتجاور نغمات محددة، تُحرّك في النفس شعوراً آنيّاً، توقد في القلب عاطفةً مؤثرة، وتوقظ في العقل فكرة وليدة، تسترجع ذكرى دفينة أو تستشرف رؤية بعيدة. تختلف الحالة المُقامة باختلاف المقام المعزوف والمسموع. كما يتبدل المزاج بتغيّر المقام، وذلك من نافل القول وبداهة المنطق في الكلام.
مقام "الراست"، (وراست بالفارسية تعني الصدق والاستقامة)، يمنح الأذنَ إحساساً بالاستقرار واتّضاحاً في الوجهة والمسار. يأتي ذلك لأن الراست يقوم على نغمة قرار ثابتة على بعد كامل من التالية. أما النغمة القلقة فيه، أي ذات البُعيد أو ما يُسمى ربع البعد، فهي قاب بُعدين أو أدنى من القرار؛ بجوار الرابعة، وأخرى مجاورة للجواب، تتوق إلى الانحلال به والانصهار فيه.

مقام "البيات"، والبيات عند العرب، جوف الليل. عند سماعه، يُطلق للخيال العنان. يدعو الإنسان إلى التفكّر والتأمل، كما يستميل في الوجدان الشوقَ والسلوان. ذلك أن النغمة القلقة ذات البُعيد باتت إلى جوار قراره، وعلى مرمى بُعد من جوابه. هذا القرب وهذا الجوار بين البُعيد والقرار يفتح البيات على أفق الصحراء، يُفسح المجال أمام السامع لكي يرنو إلى السماء، يراقب النجوم والكواكب.
مقام "السيكاه" (وفرعه الهُزام)، و"سيكاه" بالفارسية تعني ثالثة المقام. مبدؤه النغمة القلقة ذات البُعيد المُتأرجح، تصبح هي القرار والجواب، وكأن المقام بات يقوم وفي آن معاً لا يقوم، يقول ولا يقول، يُعزف ولا يُسمع، قراره جوابٌ، ومن موجات جوابه تتولد جميع الأسئلة؛ من أنا، ما أنا ولمَ أنا؟ تسأل الروح حين تسمع السيكاه، من دون أن يتسنى لها الاستكانة إلى إجابة؛ السيكاه صوتُ الصمت، مقام العمى.

مقام "الكُرد"، ليس في الكرد بُعيدٌ قلق، وإنما نصف بُعد حزين. كحزن الكردي الدفين، فليس ثمة للكردي من صديق وفيّ سوى الجبل. تضيق المسافة بين قرار المقام والنغمة التي تليه، فتضيق معها الأسارير وتُسدل السماء على السهوب الواسعة. تنعدم المسافة بين النغمة الخامسة والسادسة ليتشكل لدى المستمع إحساس بالوحدة والغربة. شكوى ووجعٌ باطن، من غدر الزمان والإنسان.
مقام "اللامي"، وكأن الحزن في الكرد لا يكفي، وبالأخص حين يأتي من العراق، فيزيد على الحزن حزناً، وعلى الشكوى شكوى. تهبط النغمة الخامسة من عتبة بعد كامل كما في الكرد، إلى مسافة نصف بعد. يصير الضيق ضيقين، واحدٌ بين القرار والنغمة الثانية، وآخَرَ على مقربة بعدين من تخوم الرابعة. يشتد القبض، وكأن وجع الكرد إذا أمسى "لامي"، أصبح صرخةً وسعَ المدى.

مقام "الحجاز"، يشتد الفُراق بين النغمة الثانية والثالثة عابراً حدود البعد. فيما يستمر الالتصاق حدّ الطباق بين الثانية والقرار، وبين سادسة المقام ونغمة جوابه. ذلك الشد والجذب يجعل من الحجاز مقاماً للعشق وموطئاً للوقوف على الأطلال، حيثما حل المعشوق في الخيال، فيه أيضاً ابتهالٌ إلى ربّ الكعبة، وأرض الحجاز مقامُها، مناجاةً للمولى، عشق الإنسان الأول، من المولد إلى المنُتهى.
مقام "الصبا"، والصبا عند العرب ريحٌ تهب من الشرق؛ هو صحيحُ الهوى غلّاب حين يحمل معه سُحب الغم والأسى، وآلام الوله والتَّيم، تلتهب لسماعه قروح الهجر والفراق. هو مقام لأجل البكاء والرثاء، سواء على فقيد رحل أو حبيب هجر. يُنتج الأثر من حصار النغمة الثانية ببُعيد ما بين الثالثة والقرار، فيما تُطبق الرابعة على الثالثة، محدثة في القلب انقباضاً، وفي النفس ظلاماً سُهاداً.
مقام "النهاوند"، ونهاوند مدينة في إيران تقع بالقرب من همدان. تتسع المسافة بين القرار والنغمة الثانية، فيما تضيق حتى نصفِ البُعد بين الثانية والثالثة، وما بين الخامسة والسادسة. يحمل النهاوند في طيّات نغماته بعضاً من الحزن. بيد أن الحزن فيه وجدانيٌ نبيل، لا يستأثر بالقلب ولا يسلب العقل، وإنما يؤثر في الوجود والكينونة. يجعل من الحياة أفضل تعاسة، ومن العيش أشرَق كآبة.

مقام "النو أثر"، بالفارسية (نو أثر)، يعني عاطفة جديدة، كما تأتي كلمة "أثر" بمعنى مقطوعة موسيقية، فيصير المعنى موسيقى جديدة أو نغماً جديداً. بداية النو أثر محض نهاوندية؛ حيث بعدٌ كاملٌ يفصل بين القرار والنغمة الثانية ونصف بعد يرزح بين النغمة الثانية والثالثة. الفارق هو افتراق الرابعة بما يزيد عن البعد، ينجم عن ذلك التصاقها بالنغمة الخامسة، لتزيد من "النو أثر" أثراً.
مقام "العجم"، والأعجمي عند العربي هو الغريب الأجنبي، أما "العجم" هو الإيراني باللغة الفارسية. العجم مقام الانبساط والانشراح. فيه، تنفرد النغمات في ما بينها - بين القرار والثالثة، وبين الخامسة والسادسة - حيث تتّسع المسافة أبعاداً كاملة. بينما تضيق بين الرابعة والخامسة وبين السادسة وجواب المقام، في حال يُشبه "الراست"، تهيئ للانحلال، ثم إحلال الوئام في الجواب.
مقام "المُخالف"، وبالفارسية (زير افكند)، أي الهبوط نزولاً. يكاد لا يبلغ مقامٌ قاع الوجع الإنساني بلوغَ المُخالف، وغلوّ الضياع والضيم لدى المكلوم عند سماعه. فالمخالف مقامُ الصبا على قرار السيكاه؛ إنها آه المفجوع التائه في بادية الوجود. قلقُ قراره ذو البُعيد، وقرحة الطباق بين ثاني وثالث نغمتيه، تجعل من الموت وحده، خلاص العاشق من سراب المعشوق، وراحة الثكلى من بكاء المفقود.
دلالات
المساهمون