وأكدت التجربة الثانية على قدرة المؤسسة الملكية على احتواء الأزمات الاجتماعية والسياسية والإنصات إلى مطالب الشارع، والتجاوب معه بالسرعة المطلوبة بعد حراك الشارع المغربي الذي قادته حركة 20 فبراير. وهو الحراك الذي جاء بتعديل دستوري في 2011، وحكومة جرى فيها احترام المنهجية الديمقراطية، بإسناد رئاستها للحزب المتصدّر لنتائج الانتخابات، ما فتح الباب لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، للقيادة إلى جانب القصر، في وقت كانت فيه المؤشرات السياسية تسير في اتجاه تكريس تحالف حزبي مكوّن من ثمانية أحزاب، يقودها حزب الأصالة والمعاصرة. لكن الربيع المغربي مضى بسفينة البلاد في اتجاه آخر، لم تعانده المؤسسة الملكية، بل دفعت في اتجاه إقراره على الأرض، في خطوة غير مسبوقة في دول الربيع العربي، اعتبرت من الخطوات الأكثر حكمة وجرأة في العالم العربي.
وشكلت الانتخابات التشريعية في 2011 حلقة مركزية في مسلسل تفعيل الإصلاحات الكبرى، المتضمنة في دستور يوليو/ تموز 2011، باعتبارها تفرز الأغلبية البرلمانية، ومنها تنبثق الحكومة، التي باتت مطالبة بتفعيل المضمون الديمقراطي للوثيقة الدستورية، مع الاستجابة للانتظارات الكبيرة للمواطنين، وما تفتحه هذه المحطة من آفاق في مجال الحوكمة الجيدة، ولا سيما من زاوية الفصل بين السلطات، وإقامة مؤسسات في خدمة المواطنين ومستقبل البلاد. وكانت انتخابات 25 نوفمبر أولى ثمرات الإصلاح، إذ مرّت في أجواء عادية، منذ انطلاق الحملة إلى يوم التصويت. وجرت، بشهادة المراقبين في أجواء ديمقراطية، وحظيت بنسبة مشاركة بلغت (45.40 في المئة)، رغم المقاطعة وأخذاً في الاعتبار السياقات المحلية والإقليمية.
يتعلق الأمر بثورة هادئة، تأتي في سياق الاستمرارية وطبيعة النظام السياسي المغربي، ثورة من خلال صناديق الاقتراع، بدل ثورات الساحات والشوارع، وبذلك يكون المغاربة حققوا انجازاً كبيراً، بأقل خسائر، وبكثير من المكاسب، في محيط إقليمي متوتر ومضطرب.
وجرى التنويه بأن المنتصر الأول، في مختلف هذه المحطات النوعية، من الاستفتاء على دستور 2011، إلى المشاركة في أول انتخابات تشريعية في ظل الدستور الجديد للمملكة، هو كل المغاربة، وهو المغرب.
غير أن ذلك لم يقطع نهائياً مع انتظارات اجتماعية كبيرة وملحة، تتجلى في استكمال ترجمة الدستور من خلال القوانين التنظيمية الخاصة به، نحو 20 قانوناً، ودعم وتقوية البنيات التحتية، ومحاربة الفساد المالي والسياسي واقتصاد الريع، ووضع أسس الحوكمة الجيدة.
براغماتية سياسية
ويؤكد الباحث وعضو الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، عمر أحرشان، في سياق تقييمه للتحولات التي عرفها المغرب، أن محطات أساسية عبرت منها البلاد من حكومة عبد الرحمان اليوسفي إلى الآن.
ويقول إن "المغرب عرف منذ تشكيل حكومة اليوسفي، انفتاحاً سياسياً غير منتظر أسند فيه الملك الراحل الحسن الثاني للمعارضة التاريخية مهمة رئاسة الحكومة وضمنها مَن قادوا ضده أعنف معارضة. وقد مهّد الحسن الثاني لذلك بتعديل الدستور سنة 1996 وإعادة العمل بنظام البرلمان ذي الغرفتين لتجنّب معضلة الثلث الذي يختار بنمط اقتراع غير مباشر".
ويفسّر إقدام الملك الراحل على تلك الخطوة الكبيرة بالمعطيات السياسية والاجتماعية التي استجدّت في تلك الفترة. ويرى أن "لجوء الحسن الثاني إلى هذا الانفتاح كان اضطرارياً لأسباب ثلاثة؛ يتمثل الأول في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي عبّر عنها في خطابه الشهير سنة 1995، والذي وصف فيه حالة البلاد بالسكتة القلبية. أما السبب الثاني، فيتمثل في رغبته بالاستفادة من علاقات اليساريين المغاربة مع نظرائهم في الخارج في ظل موجة صعود يساري في أوروبا وغيرها من البلدان، وتوظيف هذه العلاقة في ما يخص ملف الصحراء. ويتمثل السبب الثالث في مرضه الشديد ورغبته في تحقيق الانتقال الآمن للحكم لابنه".
ويستنتج أحرشان بأن فترة حكم الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي لم تكن سهلة للغاية، بل ووجِه بالكثير من المقاومات من داخل المحيط الملكي ومن خارجه. ويقول: "لقد كان الأمر يتعلق بنوع من الحرس القديم يسعى للمحافظة على امتيازاته، مسنوداً بجزء من السلطة ومن رجال المال والأعمال ومن أحزاب سياسية تقليدية"، ولذلك فإنه، حسب أحرشان، "ظل اليوسفي طيلة مدة ولايته يعاني من مقاومة الحرس القديم، وفي مقدمتهم وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، وما كان يسميهم بجيوب مقاومة التغيير بسبب غياب إرادة حقيقية للانتقال الديمقراطي". وانتهى به المطاف "إلى الخروج من الحكومة بطريقة مذلّة ومهينة له ولحزبه عبّر عنها مباشرة بعد الاستغناء عن خدماته في خطابه الشهير في بروكسل، حين قال بوضوح إن مشكلة المغرب تكمن في نظامه المخزني"، في إشارة إلى نظام الملكية التقليدية التي كانت سائدة في المغرب خلال القرنين 18 و19 والتي لا تزال بعض رواسبها موجودة في النظام الملكي الحالي، كأسلوب في الحكم والنظر إلى الشعب كرعايا وليس كمواطنين.
ولكنه قال ذلك "بعد فوات الأوان، حيث خسر رصيده السياسي وخسر وحدة حزبه الذي انقسم إلى أكثر من ثلاثة أحزاب وخسر شبيبة حزبه ومركزيته النقابية ورصيده التاريخي وحتى أصواته الانتخابية"، على حد تعبير أحرشان، العضو البارز في أكبر جماعة إسلامية في البلاد.
بعد ذلك، ووفق تحليل أحرشان، "انتقل المغرب إلى مرحلة سُمّيت بمرحلة "التخلي عن المنهجية الديمقراطية"، وبدأت منذ 2002 وعرفت انتكاسة على المستوى السياسي بالتمكين للتكنوقراط، وعلى المستوى الحقوقي بدعوى الحرب على الإرهاب"، ويوضح أنه "استمر النكوص حتى انتخابات 2007 حيث شكلت هذه الانتخابات ضربة موجعة للنظام الذي دعا المغاربة إلى الإقبال على الاقتراع، فكان الرد أكبر عملية مقاطعة وعزوف انتخابي في تاريخ المغرب. وهو ما جعل النظام يُعيد حساباته ويزجّ بفاعل جديد في الساحة السياسية تبلور من "حركة لكل الديمقراطيين" إلى أن اتخذ شكله النهائي متمثلاً في "حزب الأصالة والمعاصرة"، ولكنه عجز عن إعادة الاعتبار للعمل السياسي وتحقيق مصالحة بين المواطن والشأن العام. كما تميّزت هذه الفترة بالهجوم الإعلامي والسياسي على الأحزاب والنُّخَب السياسية وتبخيس دورها وتحميلها كل مساوئ البلاد".
أما المرحلة السياسية الثالثة التي يتوقف عندها أحرشان، فقد ارتبطت بموجة الربيع العربي التي انطلقت مع 20 فبراير/ شباط 2011، ولم تنتظر الملكية وقتاً طويلاً للتفاعل، إذ خطب الملك خطابه الشهير في 9 مارس/ آذار مقدماً عرضاً سياسياً تمثّل في تعديل الدستور وانتخابات مبكرة وزيادة في أجور الموظفين.
وفي إطار تحليله، يرى أحرشان أن "التاريخ أعاد نفسه وأظهر أن النظام المغربي تميّز بنوع من البراغماتية السياسية، فلم يتدخل بشكل سافر في نتائج الانتخابات التي مكّنت حزب العدالة والتنمية، الذي يقوده عبد الإله بنكيران، من احتلال المرتبة الأولى وتشكيل حكومة على الرغم من أن هذا كان من سابع المستحيلات قبل ذلك، ما يؤكد أن النظام لجأ إلى هذا الاختيار مضطراً".
لكن هل نجح حزب العدالة والتنمية في فرض أجندته السياسية؟ الجواب الذي يقدمه أحرشان يشير إلى أن بنكيران سيواجه الصعوبات نفسها التي واجهها اليوسفي.
ويلفت إلى أن "بنكيران لم يشذ عن خط اليوسفي، لأنه ما لبث يشكو من العفاريت والتماسيح (عوض جيوب مقاومة التغيير، كما كان يسميها اليوسفي)، ورغم الهامش الدستوري الواسع المتاح له، يلاحظ أن بنكيران حذر ومتباطئ وحريص على عدم منازعة الملك ومحيطه الكثير من الاختصاصات التي يخولها له الدستور، وهذا يذكرنا كذلك باليوسفي الذي كان يواجه قادة وقواعد حزبه بحلفه على المصحف أمام الحسن الثاني".
لكن أين هي جماعة العدل والإحسان، التي كانت الفاعل القوي داخل حركة 20 فبراير، قبل أن تنسحب منها بعد ذلك في ظروف تطرح الكثير من الأسئلة؟ يتحدث أحرشان عن وجود "الفاعل السياسي الذي يعمل خارج النسق الرسمي،َ مثل جماعة العدل والإحسان، التي ظلت تُعاني من الحصار والتضييق على حركتها طيلة كل هذه المراحل"، ويلفت إلى أنها "كانت دائماً أحرص على الحفاظ على وحدتها وحضورها ونشر تحليلاتها وتقديراتها واقتراحاتها. ويلفت إلى أن "منهج التغيير الذي أفرزته موجة الربيع العربي، أكد ما كانت تدعو إليه منذ التسعينيات حين كانت تركز على محدودية الإصلاح والتغيير من خلال المؤسسات الرسمية الصورية وضرورة الضغط من خلال الشارع بشكل سلمي وشعبي، وضرورة فتح حوار وطني من أجل صياغة ميثاق توافقي يضع ضمانات بناء دولة قوية ومجتمع متنوع وحياة سياسية سليمة يكون فيها للتنافس الانتخابي جدوى".