أمرٌ مُمتعٌ حقاً أنْ يشاهد المرء، بين فينة وأخرى، أفلاماً مغربية قصيرة، قديمة وحديثة، وضع مُخرجوها روابط لها على صفحات التواصل الاجتماعي، لمشاهدتها والاستمتاع بما تُتيحه من جماليات ومُتخيّلات ثقافية أو سياسية أو اجتماعية. هذا كلّه عملٌ فني يحتكم إلى شروط جمالية وسينمائية، تُحدّد جنسه وهويته وكينونته الإبداعية، بغية خلق نوع من المتعة والترفيه أمام حالات الاختناق التي يفرضها وباء "كورونا" والحجر الصحي.
أول تساؤل يطرحه مُشاهد تلك الأفلام المغربية القصيرة كامنٌ في السبب الذي يدفع المخرج، في بداية مساره السينمائي، إلى اعتماد الفيلم القصير لا الطويل. إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار الفيلم المغربي القصير مختبراً للتجريب، يعمل المخرجون فيه على توطيد أفكارهم وطروحاتهم، وتأكيد بعض مواهبهم السينمائية؟ وما مدى تشابك/ تطابق مشاريع أفلامهم القصيرة الأولى مع أفلامهم الروائية الطويلة؟
متتبع خصوصيات الفيلم المغربي القصير يكتشف التزايد الملموس لعدد المخرجين الجدد، الذي تفرضه مدارس ومعاهد في المغرب، إذ "تُنتج" مخرجين تقتصر بداياتهم السينمائية على "تجريب" الأفلام القصيرة، والغوص في جماليّاتها، بدل التوجه مباشرة إلى الفيلم الروائي الطويل. لعلّ البعض يعتبر أنّ سبب هذا كامنٌ في ضعف الإمكانيات المادية واللوجستية، وشحّ الدعم الذي يُقدّمه "المركز السينمائي المغربي"، واقتصار شركات الإنتاج المغربية على أسماء معروفة لترويج "بضاعتها" الفنية، ما يجعلها قادرة على مواصلة عملها الإنتاجي، عوض الرهان على مخرج جديد يفتقر إلى الخبرة الفنية التي تجعله يغوص في مخيّلة المجتمع المغربي، ويجترح أفقاً سينمائياً مغايراً، أو على الأقلّ فيلماً قابلاً للمُشاهدة. بينما يُرجّح البعض الآخر أنّ طبيعة الفكرة والموضوع، أو "الدفقة" الفنية، تُحدّدان نوع العمل الفني، وطبيعة الشكل السينمائي المُلتبس الذي يتماشى معها، سواء كان قصيراً أو طويلاً أو وثائقياً أو تربوياً.
لكن، كيف تُفسّر هزالة بعض نماذج الإنتاج السينمائي المغربي وضعفه، في الأعوام القليلة الماضية؟
يُشكِّل غياب مفهوم "المشروع السينمائيّ" الحلقة المفقودة في تاريخ الفيلم المغربي القصير، الذي يلجأ مخرجون إليه عوض الفيلم الطويل، أو أنّهم "يجرّبونه"، على حدّ تعبيرهم في أكثر من مناسبة، متناسين أنّ الفيلم القصير ليس مسوّدة سينمائية، بل مقدّمة لمشروع سينمائي، ينطلق من واقع عربي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ليصوغ لغة فنية، وبأساليب مُغايرة في التقاط الأشياء وتشكيل العالم. فالمخرج أشبه بالكاتب والشاعر والناقد والفيلسوف، ينطلق من فكرة وقضية، ويعمل على تسويغها وتوسيعها وطرحها في صُوَر مُتخيّلة أو مقتبسة من الواقع. هذه قضية تتشعّب من مشهد إلى مشهد، ومن فيلم إلى فيلم، حتّى ينتهي المخرج من خلق "أسلوب سينمائي" ينبع جوهره من مشروعٍ أول، يحتكم إلى سياقات سياسية واجتماعية محدّدة، لا يخرج عنها المخرج في أفلامه الطويلة اللاحقة.
لكن غياب المشروع السينمائي لا ينطبق فقط على الفيلم المغربي القصير، بل على أفلام طويلة عربية أيضاً، تُعرض في فترة الحجر الصحي، بسبب تباين مستوياتها الجماليّة والفكرية وغياب الانسجام فيها، بخلاف ما نعاينه في أفلام غربية، كتلك التي يُنجزها كوينتن تارانتينو مثلاً، إذْ تبدو شخصياته المُنحطّة والعنيفة متشابهة من فيلم إلى آخر، وهو قادرٌ على نقل إحداها من فيلم إلى آخر، وعلى توظيفها في هذا الفيلم أو ذاك، من دون أنْ يخلّ بمركزية المشهد وجماليته.
اقــرأ أيضاً
لأنها تنتمي كلّها إلى وقائع وأطروحات وسياقات تاريخية محدّدة، وتحكمها حبكة واحدة وخيط سينمائي ناظم، يجعل الصُور والمَشاهد تنساب في شعريةٍ، تكسرها قوّة العنف والحركة.
أول تساؤل يطرحه مُشاهد تلك الأفلام المغربية القصيرة كامنٌ في السبب الذي يدفع المخرج، في بداية مساره السينمائي، إلى اعتماد الفيلم القصير لا الطويل. إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار الفيلم المغربي القصير مختبراً للتجريب، يعمل المخرجون فيه على توطيد أفكارهم وطروحاتهم، وتأكيد بعض مواهبهم السينمائية؟ وما مدى تشابك/ تطابق مشاريع أفلامهم القصيرة الأولى مع أفلامهم الروائية الطويلة؟
متتبع خصوصيات الفيلم المغربي القصير يكتشف التزايد الملموس لعدد المخرجين الجدد، الذي تفرضه مدارس ومعاهد في المغرب، إذ "تُنتج" مخرجين تقتصر بداياتهم السينمائية على "تجريب" الأفلام القصيرة، والغوص في جماليّاتها، بدل التوجه مباشرة إلى الفيلم الروائي الطويل. لعلّ البعض يعتبر أنّ سبب هذا كامنٌ في ضعف الإمكانيات المادية واللوجستية، وشحّ الدعم الذي يُقدّمه "المركز السينمائي المغربي"، واقتصار شركات الإنتاج المغربية على أسماء معروفة لترويج "بضاعتها" الفنية، ما يجعلها قادرة على مواصلة عملها الإنتاجي، عوض الرهان على مخرج جديد يفتقر إلى الخبرة الفنية التي تجعله يغوص في مخيّلة المجتمع المغربي، ويجترح أفقاً سينمائياً مغايراً، أو على الأقلّ فيلماً قابلاً للمُشاهدة. بينما يُرجّح البعض الآخر أنّ طبيعة الفكرة والموضوع، أو "الدفقة" الفنية، تُحدّدان نوع العمل الفني، وطبيعة الشكل السينمائي المُلتبس الذي يتماشى معها، سواء كان قصيراً أو طويلاً أو وثائقياً أو تربوياً.
لكن، كيف تُفسّر هزالة بعض نماذج الإنتاج السينمائي المغربي وضعفه، في الأعوام القليلة الماضية؟
يُشكِّل غياب مفهوم "المشروع السينمائيّ" الحلقة المفقودة في تاريخ الفيلم المغربي القصير، الذي يلجأ مخرجون إليه عوض الفيلم الطويل، أو أنّهم "يجرّبونه"، على حدّ تعبيرهم في أكثر من مناسبة، متناسين أنّ الفيلم القصير ليس مسوّدة سينمائية، بل مقدّمة لمشروع سينمائي، ينطلق من واقع عربي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ليصوغ لغة فنية، وبأساليب مُغايرة في التقاط الأشياء وتشكيل العالم. فالمخرج أشبه بالكاتب والشاعر والناقد والفيلسوف، ينطلق من فكرة وقضية، ويعمل على تسويغها وتوسيعها وطرحها في صُوَر مُتخيّلة أو مقتبسة من الواقع. هذه قضية تتشعّب من مشهد إلى مشهد، ومن فيلم إلى فيلم، حتّى ينتهي المخرج من خلق "أسلوب سينمائي" ينبع جوهره من مشروعٍ أول، يحتكم إلى سياقات سياسية واجتماعية محدّدة، لا يخرج عنها المخرج في أفلامه الطويلة اللاحقة.
لكن غياب المشروع السينمائي لا ينطبق فقط على الفيلم المغربي القصير، بل على أفلام طويلة عربية أيضاً، تُعرض في فترة الحجر الصحي، بسبب تباين مستوياتها الجماليّة والفكرية وغياب الانسجام فيها، بخلاف ما نعاينه في أفلام غربية، كتلك التي يُنجزها كوينتن تارانتينو مثلاً، إذْ تبدو شخصياته المُنحطّة والعنيفة متشابهة من فيلم إلى آخر، وهو قادرٌ على نقل إحداها من فيلم إلى آخر، وعلى توظيفها في هذا الفيلم أو ذاك، من دون أنْ يخلّ بمركزية المشهد وجماليته.
هذا غائبٌ في الفيلم المغربي القصير، كما أنّه ينطبق على نماذج مغربية ذات إشعاع فني وامتداد متشعّب في متخيّل السينما العربية ووجدانها، باستثناء بعض المخرجين المغاربة القلائل، المعروضة أفلام قصيرة لهم حالياً، كفوزي بن السعيدي، الذي نكتشف مدى تلمّسه، منذ بداياته، جماليّات الفيلم القصير، وقدرته على امتلاك مشروع سينمائيّ واضح المعالم، ورؤية فنية مُتماسكة، وقدرة هائلة على تطويع الواقع المغربي بصرياً، بالإضافة إلى قدرته على تحطيم الشكل وخطية المَشَاهد، وصُنع لقطات عدّة في مشهد واحد وأمكنة محدّدة، يمارس معها نوعاً من "اللعب"، بإدخال شخصياته وإخراجها بكيفية مذهلة، من دون تكسير شعرية المشهد. كما يُحطّم صنمية الصُورة، وممارسة كوميديا ساخرة من الواقع الذي ينتمي إليه بصرياً، كما في "الحائط" (2000).