المعيار الإجماعي الوطني الفلسطيني... سُبل التجديد

21 يناير 2018
+ الخط -


يرتكز المعيار الإجماعي الوطني على المصالح الوطنية العليا الثابتة لأي شعبٍ كان بكل مكوناته الطبقية والاجتماعية والسياسية، التي يتم تحديدها بإرادته الحرة، وتأتي في مقدمتها وحدة الشعب وسيادة الوطن واستقلاله ووحدة أراضيه وتقدمه وتطوره المستمرين، وهناك قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يمكن أن ترتقي إلى مستوى المصالح الوطنية في مراحل تاريخية معينة نظراً لطبيعتها وتأثيرها مثل الوحدة مع بلد آخر أو الحقوق في مياه الأنهر أو البحار إلى آخره.

وفي الحالة الفلسطينية فإن إنهاء الاحتلال ووحدة الصف الفلسطيني وتقرير المصير بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين والمُبعدين، وتحرير الأسرى ودمقرطة النظام السياسي الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال والتمسك بقرارات الشرعية الدولية واستجلاب الدعم العربي والدولي لإسناد كفاح الشعب الفلسطيني تشكل المصالح الوطنية العليا التي علينا التمسك بها وتقوية حضورها بشكل دائم.

وفقاً لمرتكزات المعيار الإجماعي الوطني، فإن المعيار الإجماعي أو شبه الإجماعي الفلسطيني تعرض للمساس به، وأصيب بالاختلال ومن أبرز شواهد ذلك ما يلي:


الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني

تمثل وحدة الشعب إحدى المصالح الوطنية العليا الثابتة التي يرتكز عليها المعيار الإجماعي الوطني لأي شعبٍ كان. وفي الحالة الفلسطينية أدى الانقسام إلى شرذمة المجتمع الفلسطيني، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وأظهر طرفين بأيديولوجيات مختلفة، الأمر الذي أضعف منظمة التحرير الفلسطينية وموقفها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في داخل وخارج الوطن. ويمثل هذا الانقسام أبرز وأهم الشواهد على اختلال المعيار الجمعي الفلسطيني.

قد نختلف بالسياسة، ونتجادل ونتنافس، نعم، أما في السياقات الوطنية فالأصل أن يكون سقفنا وحدتنا، وعليه فإن من لا يصون وحدة بلاده لن تواجهه إلا خيارات الإقصاء.

تغييب الشباب والتهوين من المبادرات الوطنية المختلفة

تمثل فئة الشباب نسبة 30% من الشعب الفلسطيني، وتغييب هذه الفئة عن المشاركة الفاعلة في مختلف الميادين: السياسية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية، يعني عدم توحيد نظرة هذه الفئة للمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.

قطاع الشباب الفلسطيني فيه كفاءات نادرة ولكنها تحتاج فرصة، وقد أثبتت الأجيال الجديدة بجدارة أنها من خيرة حماة الوطن. وعليه فإن المطلوب توفير كافة الإمكانات من أجل استكمال بنائهم وطنياً وإعدادهم وتأهيلهم بما يتناسب مع دورهم، وهذا أضعف الإيمان.

الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني كان له أثر كبير في تهميش فئات واسعة من قطاع الشباب. فكثير من المبادرات الوطنية الشبابية التي أُطلقت ما بعد الانقسام تم التهوين والاستخفاف بها من أطراف الانقسام، ووصلت أحياناً إلى درجة التخوين.

ليس من الصواب التهوين من أي حراك أو مبادرة وطنية حاصلة في البلاد. قد يتملكنا اليأس والإحباط أحياناً وهذه ليست خيانة .. هذه أحاسيس بشرية طبيعية وعادية جداً .. "التيئيس" هو الخيانة.

الفساد

الفساد أشد من الخيانة، لأنه يعرقل عملية دمقرطة النظام السياسي الفلسطيني، وبالتالي يُخل بمصالح الشعب الفلسطيني العليا. لا يقتصر الفساد الذي نتحدث عنه على مسألة تجاوزات مالية أو إدارية مفتعلة من قبل أفراد محددين، أو على حياتنا اليومية التي تضج بالواسطة والمحسوبيات. وإنما الفساد المتأصل والمتجذر في المنظومة الفلسطينية برمتها، الذي رسخته العصبية القبلية، والولاءات التنظيمية، والانقسام الفلسطيني.

الاعتراف بالواقع أو إنكاره

يقول الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو إن "عقوبة الفلسطيني الدائمة كانت وما تزال النفي خارج أرضه، أن يخرج الفلسطيني من جسده". إن السياسات الاحتلالية الإسرائيلية تهدف إلى تحويل هذه العقوبة الدائمة إلى واقع دائم، والرد الرسمي الفلسطيني على ذلك تنقل عبر السنين ما بين الاعتراف بالواقع أو إنكاره، ما تسبب بهزيمة نفسية أثرت في الكل الفلسطيني وخلقت تشوهاً في المعيار الإجماعي الفلسطيني والمنظومة الوطنية برمتها.

الاعتراف بالواقع أو إنكاره يكرس المأساة ويرسخها، وشتان ما بين الاعتراف بالواقع أو إنكاره والتعامل معه، فالتعامل مع الواقع هو ما نحتاجه. وهذا لا يمكن أن يتم دون إعادة الاعتبار لكل مقومات ومحددات المعيار الإجماعي الوطني المرتكز على المصالح العليا الثابتة للشعب الفلسطيني.

عدم الوعي بمضامين المصطلحات

دخلت مجموعة من المصطلحات الخبيثة من دون وعي إلى الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية الفلسطينية، وبغض النظر عن ماهية هذه المصطلحات، وسواء كانت بقصد أو غير قصد، فإن تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني الذي تم تقريره عام 1996م بما لا يتعارض مع اتفاقية أوسلو عام 1993م، والذي تضمن إلغاء المواد التي تظهر الصهيونية كعدو يُراد التخلص منه، شكل أحد أبرز أسباب تشتت الخطاب الوطني الفلسطيني، كون الميثاق يمثل المعيار الإجماعي الوطني باعتباره صادراً عن الجسم الذي يمثل الكل الفلسطيني.

ما العمل؟

يتساءل بعضهم، أليس لدينا مثل هذا المعيار الإجماعي أو شبه الإجماعي ممثلاً بالبرنامج الوطني الفلسطيني القائم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967م وعاصمتها القدس وضمان حق العودة ووحدة الشعب في الوطن والشتات ومنظمة التحرير الفلسطينية وممثلها الشرعي والوحيد للكيان السياسي. وهذا صحيح جداً، لكن هذا المعيار الوطني تعرض للاختلال كما أوردنا أعلاه. ولكل هذا بتنا بحاجة إلى تجديد الإجماع أو شبه الإجماع على ماهية المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني حتى لا ينزل بها بعضهم إلى مستوى خدمة المصالح الفئوية أو الشخصية.

الثقافة الفلسطينية هي الأساس الذي يجب البدء منه. بمعنى أن ثقافتنا فلسطينية الهوية وأن معيار الدخول والخروج في ميدان ثقافتنا والقبول والرفض فيها هو المعيار الوطني. واليوم بعد الهزة التي أصابتنا جراء اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لما يُسمى بإسرائيل، بتنا بأمس الحاجة إلى كتابة ميثاق وطني فلسطيني جديد يعالج كافة القضايا الوطنية، ويؤكد ثوابتنا ومبادئنا الوطنية بشكل واضح للجميع دون مراوغة أو تضليل، خصوصاً في هذه المرحلة التي تمتاز بالتخبط والرمادية.

عنوان المرحلة المقبلة يجب أن يكون إنهاء الانقسام والفساد قبل الاحتلال، بكافة إفرازاتهما وتداعياتهما، وإلا فإن التعامل مع الواقع الذي يفرضه الاحتلال سيكون مستحيلاً وكل فعل نُقدم عليه سيكون ضرباً من العبث. فكيف يرفع سقفه من لا أرضية ولا جدران عنده؟