تشغلُ الموريتانيون أمور كثيرة. منها رؤية الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية يسيرون بينهم في الطرقات. يقولون إنهم "يخشون غضبهم وتمردهم على المارة". أما سبب وجودهم في الشوارع، فيعود إلى نقص المراكز الصحية القادرة على استيعابهم، إضافة إلى تخلي أسرهم عنهم.
ويقول التاجر في سوق العاصمة عبد الله ولد الغوث، إن "ذوي الاعاقات الذهنية لا يجدون مأوى غير الشارع والأسواق. وهذا أمر محزن. علماً أنهم يحتاجون إلى المتابعة الطبية للسيطرة عليهم، وحمايتهم من أنفسهم وغيرهم". في المقابل، يبدو علي ولد الغيلاني، الذي يملك محل صرافة، غاضباً حيال جميع ذوي الإعاقات الذهنية الذين يتخذون من السوق مقراً لهم. ويضيف أن "أحدهم عمد إلى تكسير واجهة محله"، لافتاً إلى أن "الشرطة لا تتدخل لحمايتنا من خطرهم إلا حين يسقط الضحايا. وكان الأجدر بهم منعهم من دخول السوق والتجول في الشارع، وتخصيص مأوى لهم". ويتابع: "حين يغضبون، لا تستطيع عقابهم أو ردعهم. يهاجمون النساء وينشرون الرعب في السوق".
"مسّ".. وسحر
يعزو غالبية الموريتانيين الاضطرابات الذهنية إلى "مسّ الجن". وتخجل عائلات كثيرة من "الاعتراف بإصابة أحد أفرادها باضطرابات ذهنية"، وتفضل الصمت، أو تلجأ إلى "السحر". وإذا ازداد وضع المريض سوءاً، تستشير الطبيب.
وتقول مريم إنها "لجأت إلى الرقية بعدما اكتشفت أن ابنها مُصاب باضطراب ذهني. وحين لم يتحسن، توجهت إلى السحرة. وبعد استنزاف مدخراتها وتدهور حالة ابنها الصحية، أدخلته إلى المركز الطبي حيث لا يزال يتلقى العلاج". وتضيف أن "غالبية الناس يؤمنون أن الاضطرابات الذهنية لا يمكن علاجها إلا من خلال إبطال السحر".
ترفض مريم تخلي الدولة عن الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية، لافتة إلى أنها "لم تفكر يوماً في ترك ابنها"، مضيفة أن "إصرار الأطباء على إبقائه تحت المراقبة لاستكمال العلاج هو سبب ابتعادها عنه".
من جهتها، لا تترك سعاد ابنتها فاطمة المصابة بمرض الذهان. تحملها إلى المستشفى صباح كل يوم. حتى أنها عرضتها على أطباء في المغرب وفرنسا، وأنفقت ثروة هائلة على السحرة والمشعوذين الذين أوهموها بإمكانية علاجها، من دون جدوى. وتؤكد سعاد أن "اهتمام العائلة وإحساسها بالمسؤولية حيال فاطمة، يساعد في علاجها".
لا مراكز طبيّة
تقول دراسة طبية رسمية حول الصحة الذهنية في موريتانيا إن "33 في المائة من الموريتانيين يعانون اضطرابات ذهنية"، لافتة إلى أنها "مرتبطة بالإحباط والقلق والفشل المدرسي والمهني والاجتماعي، إضافة إلى تعاطي المخدرات".
وفي السياق، يقول الطبيب المتخصص في الأمراض الذهنية والنفسية سيدي محمد ولد الحافظ، إنه "لا يوجد في موريتانيا سوى مركز واحد لعلاج الأشخاص ذوي الاعاقات الذهنية أو النفسية، وهو المركز الطبي للصحة الذهنية والنفسية في نواكشوط. أما الأقسام الملحقة الموجودة في بعض العيادات الخاصة، فهي قاعات للفحص والتشخيص، وليست مؤهلة بالشكل الكافي لتقديم العلاج".
ويرى الحافظ أن "هناك تردياً شاملاً في قطاع الصحة في موريتانيا، وخصوصاً لعلاج الاضطرابات الذهنية". ويؤكد أن "ظاهرة وجود ذوي الإعاقات الذهنية في الشارع ملاحظة بقوة في السنوات الأخيرة بسبب الضغط الكبير الذي يتعرض له المركز الوحيد للأمراض الذهنية"، معتبراً أن "علاج هذه الظاهرة يبدأ بإيجاد مراكز تؤوي هؤلاء المرضى". ويضيف أن "المركز يعالج نحو 1500 مريض سنوياً فقط".
ويشير الطبيب إلى أن "السبب الرئيس للاضطرابات الذهنية في موريتانيا هو الصدمة، ما يعني أن الشفاء ممكن إذا تلقى المريض العلاج الصحيح مبكراً"، مطالباً "بتوعية الموريتانيين حول الصحة النفسية والذهنية، من خلال الاعتراف بالإعاقة الذهنية".
تقصير
يقول الباحث الاجتماعي أحمد سعيد ولد همام إن "المعوقين ذهنياً يعانون نوبات عصبية حادة بسبب عدم تناول الدواء بانتظام، وانعدام الرعاية النفسية والاجتماعية"، لافتاً في الوقت نفسه إلى "ضعف الطاقة الاستيعابية للمراكز الصحية الحالية، ما يؤدي بهؤلاء إلى اللجوء إلى الشارع، بعد تخلي أسرهم عنهم". ويوضح أن "إيواء المرضى وعلاجهم يمثل إشكالية يصعب حلها في الوقت الحالي"، مؤكداً أن "المستشفيات بحاجة إلى التأهيل وتحسين ظروف العمل".
ويؤكد همام أن "وضع المستشفيات أدى إلى هروب المعوقين ذهنياً إلى الشارع. وهذا ما يفسر تنقلهم بين الأزقة في أوضاع مثيرة للشفقة والإحراج، بملابس غريبة". ويضيف أن "هذه الظاهرة باتت تصنعُ واقعاً مأساوياً ساعد على تكريسه الخجل الجماعي من المعوقين ذهنياً، وخصوصاً أن بعض العائلات تسعى إلى التخلص من أبنائها". ويلفت إلى أن "بعض الأسر تلجأ أيضاً إلى الاستعانة بالأضرحة والمزارات والمشعوذين لعلاج أبنائها"، مشيراً إلى أن "الإقبال على الأطباء والمختصين غالباً ما يكون ضعيفاً، لأنهم يعتقدون أن الاضطرابات الذهنية ناتجة عن مس من الجن أو السحر أو الشيطان، علماً أن هناك عوامل وراثية تنقل المرض من شخص إلى آخر، إضافة إلى أخرى نوروبيولوجية".
ويلفت همام إلى أن "غالبية العائلات ترفض وضع الفتيات في المصحات، خوفاً عليهن من المعاملة السيئة أو الاستغلال الجنسي"، مضيفاً "يلجأ البعض إلى حبسها في البيت تجنباً للمشاكل، أو إيداعها لدى أسرة فقيرة في قرية نائية في مقابل مبلغ مالي".