حين انتدب الفرنسيون أنفسهم على لبنان وسورية بعد الحرب العالمية الأولى، أنشأوا في دمشق وبيروت معهدين اثنين. وكان في أوراق إنشاء معهد دمشق (1922) ما يخبّر عن متحف ومكتبة وصالة وقاعات درس، فضلًا عمّا يشبه المشغل الحرفي لتعلّم وصناعة الزجاج والقماش والخزف، وبالطبع الموزاييك والأثاث المصدّف الدمشقي. سُمّي المعهد "المعهد الفرنسي للآثار والفنّ الإسلامي"، واتخذ مقرّه الأوّل في قصر العظم في دمشق، بعد أن اشتراه الفرنسيون من ملّاكه الدمشقيين. وكان اختيار القصر البهي مقرًا للمعهد، قرارًا خالصًا للجنرال غورو الذي كان، على عادة أهل الانتداب، مغرمًا بآثار البلاد المنتدبة وفنونها، نظرًا إلى أثر جمال الفنون والعمارة العربية القديمة في بثّ بروباغندا "عظمة" من انتدب نفسه عليها. وبرّرغورو ذلك قائلًا " كي نظهر للسكّان المحليين ما يمكن لفرنسا أن تخلقه من ماضٍ مجيدٍ كهذا".
تقلّبت أحوال المعهد، وتأثّر بثورة عام 1925 وتضرّر القصر. وأدرك الفرنسيون أن العلاقة مع السكّان المحليين ليست تفصيلًا نافلًا، بيد أن النزعة الاستعمارية أثّرت كذلك، وغدا المعهد الوليد ممولًا من قبل وزارة الخارجية الفرنسية منذ عام 1927.
بعد الاستقلال، لم يعد قصر العظم مقرّ المعهد، وإذ انتقل لفترة وجيزة إلى شارع بغداد (1946)، استقرّ بعدها عند "كعب" شارع أبو رمانة في دمشق، غير بعيد من قصر الضيافة أو المقرّ الرسمي لرئيس الجمهورية وقتذاك أديب الشيشكلي، وبقي هناك إلى اليوم. وحملت الأربعينيات الخارجة من الانتداب صوب الاستقلال، رياحًا أخرى. إذ إن الناظر إلى قائمة منشورات المعهد الطويلة، سيلاحظ مشاركة السوريين الحثيثة فيها. ومن خلال مثالين اثنين يمكننا الوقوف عندها؛ أفضل تحقيق لديوان أبو فراس الحمداني، بتوقيع سامي الدّهان، والتحقيق الوحيد لكتاب يوسف البديعي "أوج التحرّي عن حيثية أبي العلاء المعري"، بتوقيع إبراهيم الكيلاني.
ونظرًا إلى عوامل شتّى، تنازعت المكان الصغير، ريحان فرنسيتان اثنتان؛ واحدة تستمّد قوّتها من ماضي الانتداب وعظمة فرنسا وموقعها في المعهد بالطبع، وأخرى تستمّد قوّتها من شغفها بالعلم والبحث وحبّ أهل المكان. ريحٌ طيبة وأخرى لا.
اقرأ أيضاً: كوابيس العراق الملوّنة
وسيجد أهل "الريحين" لو جاز التعبير، مكانهم دائمًا في الكتب والتأريخ للمعهد، بينما تغفل غالبية الكتب، مساهمة السوريين في إعطاء هذا المكان هوّيته السورية، عبر مساهماتهم العلمية والتعليمية، وذاك الاندفاع وتلك الحماسة كي يكون العمل "ناجحًا" في المعهد الذي لم ينظر العاملون السوريون إليه كمكان "أجنبي". فكلّ ما فيه ينضح بتراثهم وثقافتهم؛ المكتبة المنمنة، غنية بكتب مختصّة بثقافة العرب، والمطبوعات المميّزة لا تدرس إلا دنياهم وحضارتهم. وذاك المشغل الصغير "مشغل دمشق القديمة" المختصّ بأحياء دمشق داخل السور وخارجه. قصص كثيرة يمكن المرء أن يسردها، عن الباحثين والمترجمين السوريين في إهاب أساتذة قديرين، جعلوا من العنوان "دمشق، شارع شكري العسلي" عنوانًا عالميًا، استقطب كلّ أجنبي أراد معرفة اللغة العربية وإتقانها سواءٌ في الأدب أم التاريخ أم غيرهما. وقصص أخرى يمكن سردها عن موظفي المعهد السوريين، الذين لم تكن تنقصهم حماسة العمل والإخلاص فيه على الإطلاق.
أصحاب "الريح الفرنسية الطيبة" بادلوا السوريين حبًّا بحبّ، وشغفوا بالثقافة العربية، وأشاعوا وإيّاهم جوًا دافئًا أخويًا. وللمرء أن يذكر في هذا المقام مثلًا الباحث ميشيل سورا، الذي عُمّدت قاعتان، واحدة في معهد دمشق، واخرى في معهد بيروت باسمه. الباحث الذي خُطف أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وجدتْ جثّته بعد سنين في حرشٍ. ويومها كتب اللبناني سمير قصير مقالًا لاذعًا بعنوان "حرش القتيل"، انتقد فيه سياسة فرنسا تجاه الباحث القتيل.
كان ميشيل سورا من أهل "الريح الفرنسية الطيبة"، التي احترمت أهل البلاد، ولم تنظر إليهم باستعلاء أو فوقية تفرضهما المناصب العليا في المعهدين المذكورين.
وإذ هبّت رياح العولمة، وزاد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من قوّتها، ازداد عدد الباحثين الأجانب في "العلوم السياسية" في المعهد، ممن يميلون لاقتناص فرصة عمل كـ "مستشار سياسي"، ونقص عدد الباحثين في فروع من العلوم الإنسانية، كالأدب والعمارة وغيرها.
بيد أن ثمّة من لم يترك لريح العولمة فرصة إملاء موضوع البحث عليه، واستمرّ مُنقادًا وراء شغفه الخاصّ. كأن يفتنّ بعالم النشر العربي في بيروت والقاهرة والمغرب، ويتابع شؤونه عن كثب. وكأن لا يشفى مطلقًا من حبّ اليمن بكلّ ما فيه، ومن النظرة الأولى. وفي الوقت نفسه، لا يتحرّج من نقد ما آلت إليه اليوم المعاهد العلمية الفرنسية المنتشرة في غير ما بلد عربي، وكيف باتت أسيرة أمور شتّى، ليس بينها بالطبع البحث العلمي. من هؤلاء "الناجين" لو جاز التعبير، ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الكاتب والباحث الفرنسي فرانك ميرمييه.
تقلّبت أحوال المعهد، وتأثّر بثورة عام 1925 وتضرّر القصر. وأدرك الفرنسيون أن العلاقة مع السكّان المحليين ليست تفصيلًا نافلًا، بيد أن النزعة الاستعمارية أثّرت كذلك، وغدا المعهد الوليد ممولًا من قبل وزارة الخارجية الفرنسية منذ عام 1927.
بعد الاستقلال، لم يعد قصر العظم مقرّ المعهد، وإذ انتقل لفترة وجيزة إلى شارع بغداد (1946)، استقرّ بعدها عند "كعب" شارع أبو رمانة في دمشق، غير بعيد من قصر الضيافة أو المقرّ الرسمي لرئيس الجمهورية وقتذاك أديب الشيشكلي، وبقي هناك إلى اليوم. وحملت الأربعينيات الخارجة من الانتداب صوب الاستقلال، رياحًا أخرى. إذ إن الناظر إلى قائمة منشورات المعهد الطويلة، سيلاحظ مشاركة السوريين الحثيثة فيها. ومن خلال مثالين اثنين يمكننا الوقوف عندها؛ أفضل تحقيق لديوان أبو فراس الحمداني، بتوقيع سامي الدّهان، والتحقيق الوحيد لكتاب يوسف البديعي "أوج التحرّي عن حيثية أبي العلاء المعري"، بتوقيع إبراهيم الكيلاني.
ونظرًا إلى عوامل شتّى، تنازعت المكان الصغير، ريحان فرنسيتان اثنتان؛ واحدة تستمّد قوّتها من ماضي الانتداب وعظمة فرنسا وموقعها في المعهد بالطبع، وأخرى تستمّد قوّتها من شغفها بالعلم والبحث وحبّ أهل المكان. ريحٌ طيبة وأخرى لا.
اقرأ أيضاً: كوابيس العراق الملوّنة
وسيجد أهل "الريحين" لو جاز التعبير، مكانهم دائمًا في الكتب والتأريخ للمعهد، بينما تغفل غالبية الكتب، مساهمة السوريين في إعطاء هذا المكان هوّيته السورية، عبر مساهماتهم العلمية والتعليمية، وذاك الاندفاع وتلك الحماسة كي يكون العمل "ناجحًا" في المعهد الذي لم ينظر العاملون السوريون إليه كمكان "أجنبي". فكلّ ما فيه ينضح بتراثهم وثقافتهم؛ المكتبة المنمنة، غنية بكتب مختصّة بثقافة العرب، والمطبوعات المميّزة لا تدرس إلا دنياهم وحضارتهم. وذاك المشغل الصغير "مشغل دمشق القديمة" المختصّ بأحياء دمشق داخل السور وخارجه. قصص كثيرة يمكن المرء أن يسردها، عن الباحثين والمترجمين السوريين في إهاب أساتذة قديرين، جعلوا من العنوان "دمشق، شارع شكري العسلي" عنوانًا عالميًا، استقطب كلّ أجنبي أراد معرفة اللغة العربية وإتقانها سواءٌ في الأدب أم التاريخ أم غيرهما. وقصص أخرى يمكن سردها عن موظفي المعهد السوريين، الذين لم تكن تنقصهم حماسة العمل والإخلاص فيه على الإطلاق.
أصحاب "الريح الفرنسية الطيبة" بادلوا السوريين حبًّا بحبّ، وشغفوا بالثقافة العربية، وأشاعوا وإيّاهم جوًا دافئًا أخويًا. وللمرء أن يذكر في هذا المقام مثلًا الباحث ميشيل سورا، الذي عُمّدت قاعتان، واحدة في معهد دمشق، واخرى في معهد بيروت باسمه. الباحث الذي خُطف أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وجدتْ جثّته بعد سنين في حرشٍ. ويومها كتب اللبناني سمير قصير مقالًا لاذعًا بعنوان "حرش القتيل"، انتقد فيه سياسة فرنسا تجاه الباحث القتيل.
كان ميشيل سورا من أهل "الريح الفرنسية الطيبة"، التي احترمت أهل البلاد، ولم تنظر إليهم باستعلاء أو فوقية تفرضهما المناصب العليا في المعهدين المذكورين.
وإذ هبّت رياح العولمة، وزاد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من قوّتها، ازداد عدد الباحثين الأجانب في "العلوم السياسية" في المعهد، ممن يميلون لاقتناص فرصة عمل كـ "مستشار سياسي"، ونقص عدد الباحثين في فروع من العلوم الإنسانية، كالأدب والعمارة وغيرها.
بيد أن ثمّة من لم يترك لريح العولمة فرصة إملاء موضوع البحث عليه، واستمرّ مُنقادًا وراء شغفه الخاصّ. كأن يفتنّ بعالم النشر العربي في بيروت والقاهرة والمغرب، ويتابع شؤونه عن كثب. وكأن لا يشفى مطلقًا من حبّ اليمن بكلّ ما فيه، ومن النظرة الأولى. وفي الوقت نفسه، لا يتحرّج من نقد ما آلت إليه اليوم المعاهد العلمية الفرنسية المنتشرة في غير ما بلد عربي، وكيف باتت أسيرة أمور شتّى، ليس بينها بالطبع البحث العلمي. من هؤلاء "الناجين" لو جاز التعبير، ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الكاتب والباحث الفرنسي فرانك ميرمييه.