المعلّم مرّة أخرى

26 مايو 2019
(الكاتبة في مدرسة "للا مريم" بالدار البيضاء في السبعينيات)
+ الخط -

"الرحمٓن، علّم القرآن، خلق الإنسان…"

تُحسّ بدوخان في رأسها، "الرحمٓن، علّم القرآن…"، يزيد دوارها، تمتلئ عيناها اللوزيتان، الشاسعتان، الرّحمٓن…تسوَدُّ القاعة أمامها، وكأن دموعها صارت شلّالاً من ظلمة تُجلي بصرها. "الرّحمٓ... ".

- كفى! لقد أخطأتِ ثلاث مرّات ومن الأوّل، كسولة.

ترتعِدُ كشجيرة في الخريف.

- "علّمه البيان"...

- صافي (كفى)، قلت لَك، يصرخ المعلّم مرّة أخرى.

دموعها تسقط واحدة تلو الأخرى…

- الشمس والقمر...

- أووف. أحسّت فجأة بجفاف في حلقها يمنعها من لفظ حتى حرف واحد. جفافٌ يحرقها كبيداء المتنبّي، بينما يد المعلّم الذي شاط غضبه، تنقضّ عليها من أعلى قميصها، حاملة إياها من الطاولة إلى غاية مكتبه الذي كان يتربّع فيه كما على عرش، في الناحية الأكثر علوّاً من القسم.

المعلّم بحاجبيه الغليظين ونظراته التي تُنبئ بوقوع ما كان يُرهِبُ القسم كلَّه.

- لا تتحرّكي!

قالها بنوع من اللذّة لا يفهمها طفل.

ظلّت مكانها متّكئة على المكتب، وهي تدير ظهرها لزملائها.

- لو لم تكوني بنت المديرة، لقلعت بنطلونك كالأخريات!

هذا البنطلون من كتّان أزرق أنيق، كان لباس عيد الإفطار.

انهال عليها المعلّم بالسوط أو ما يسمّى في المغرب "الكوروا"... كلمة من بقايا الاستعمار الفرنسي. انهال عليها عشر مرّات متتابعة، لا ترى لقوّتها من تفاوت.

بكت الطفلة وانتحبت ولم تستطع الكفّ عن البكاء.

فسمعت المعلّم يقول: مثلاً كلمة "زفرات" ها هو معناها بالضبط، انظروا (س)، وهو يحدّق فيها بنظرة الاكتفاء.

تساءلت التلميذة وزفراتها لا زالت تهزُّ جسدها الصغير: يا ترى ما هو الرحمن؟ ما هذا البيان؟ والإنسان؟ الذي جعلوها لا تقوى على الجلوس من الألم؟ ما سرُّ هذه الكلمات التي قادت هذه "الكوروا" على جلدها الأبيض الناصع؟ وحوّلت بياضه إلى حمرة بنفسجيّة… اللون البنفسجي الغامق الذي يذكّرها الآن بألبرتين، بطلة "بروست"، ولون خدّيها الذي جعل منها أجمل فتاة في الرواية.

ولكن هيهات، هنا في هذا القسم وعند آخر كل حصّة، وفي الربع الأخير منها، كان المكان يتحوّل إلى قاعة تعذيب، نوع من "درب مولاي الشريف"، حيث لا يأبه المعلّم وعونه، لكون سجنائه لا يتعدّى عمر أكبرهم عشر أو إحدى عشرة سنة!

كان العون، وهو أخ المعلِّم، تلميذا فاشلا في الرابعة عشرة من عمره، طويلاً وعريضاً، مفتول العضلات. كان يجُرُّ أولى الطاولات إلى الأمام بعُنف، ومعها أفئدة القسم كلِّه. ويُساق المتّهم بعدم حفظ درْسٍ أو قلّة فهمه، أو بالدردشة، أو ذاك الذي أهملت أمّه الفقيرة أن تأتي بقُفّة الشاي الساخن "المُنعنع" و"مسَمّنٌ" أو فطير، رطب مدهون بالعسل و"الزبدة" أو القشدة، عند استراحة الرابعة.

تُساق أو يُساق المسكينة أو المسكين إذن، يجبرُه العون على الجلوس ونزع حذائه البئيس المغبرّ، وإدخال رجليه في "فجوة" الطاولة حيث توضع المحفظة، ويجذب أخ المعلّم رجلي المسكين خارج "القمطر"، ويربطها بإحكام بمنديل رأس هذه أو تلك.

يبدأ إذن تنفيذ الحكم. ضربات قاسية تتوالى على صفحة قدمي الطفل أو الطفلة. وإننا نعرف أن كل نقطة من صفحة القدم متّصِلة بعضو مختلف من أعضاء الجسم أجمعه، ضربات عصا اليوم التي كان يحضِّرُها العون. المرشَّحون لـ"الفَلَقة" أو "التَّحْميلة"، يتوافدون كالحجّاج على الطاولة. فتُكسَر العصا ويكون حتماً خطأ التلميذ الذي يتلقّى صفعات المعلّم "من تحت الحساب".

أشكال وأنواع من الزفرات كانت تتعالى من هنا وهناك، فتصير كأزيز حريق لم يُدْعَ له رجال الإطفاء. لا يطفئه إلا جرس انتهاء الحصّة. حينها فقط يعود الجميع إلى منزله أو "برّاكته" الصفيحية، مع القناعة أنّه أدّى مهمّته وأنّ "الدْنيا هانِيَة والسْمَا صافية وسيدي ربّي هو الله" كما يقول أهل الأحياء الشعبية.

-ما حفظتيش، ضربك المعلّم على مصلحتك، أولد الحرام تنقولك الكرة في الدرب غادي تخرج عليك! بلاتي يجي بَّاك، تقول الأم التي لم تعرف كابوس المدارس، لابنها الذي رجع حبْواً. راه معلّم مزيان حيث صعيب، وربما زادته صفعة بدورها.

ها الطّفل البارع الجمال وكأنه "فِلْقة" قمر، يُحاول تلاوة سورة الرحمن. من أجمل سور القرآن وعروسه على حدّ قول الرسول محمّد. لم يُمهله المعلّم وكأنّ له حساباً مع الطفل البريء.

استهلَّ المعلّم بنفث شتائم لاذعة وبذيئة في حقّ هذا الطّفل المعروف بأنَفته وذكائه وثيابه النظيفة دائماً. أمر المعلِّم باقي التلاميذ، وهو يلْعن العضو التناسلي لأُم التلميذ ويقدح في شرفها، أن يستهزئوا به وإلّا تعرّضوا لنفس المصير، فتعالت ضحكات، أصلُها الرعب والإحساس بالنجاة هذا اليوم، بل ويضحك حتى من سبقوه للتحميلة، بينما "الكوروا" تنهال على الطفل، إلى أن انهارت أنَفته وانكسرت كرامته وانفجر بكاءً. استلذّ المعلِّم بتحطيمه له وإهانته. وصرخ في وجهه:

- شرّح ملّح ما يخنز (إذا شرّحت اللحم وضمّخته بالملح لا يفسد) عندك تحسب راسك أحسن من الآخرين، راك زيرو (صفر) والو (لا شيء) وهو يمسح لعابه على طرف بذلته.

هذا المعلم يضرب ليؤدب، يضرب لينتقم، ليُهين. إنّه يضرِب.

هذه المعلّمة رمَت باثنين من تلاميذها من الطابق الثالث. كانت "مريضة بالأعصاب"، مسكينة يقولون! أيُّ بؤس حلّ بها؟ أيُّ سرطان في رِدف المجتمع أصابها؟ لم يُرم بها في أي سجن ولا حتى رُفعت عليها أي دعوى… الوالدان في الحالتين، تنازلا و"سمحوا في حقهم" لأنها معلّمة والتلميذان مجرّد طفلين كانا ينزحان من "الكاريان"، أو حيّ الصفيح، إلى غاية المدرسة، لتعلّم القراءة والكتابة. لم أعثر لهما على اسم ولا وجدت مكاناً لإهدائهما وردة!

تلك الأخرى عاقبت تلميذها الذي كان "يهْدر" أو يتكَلّم دون إذن، بسجنه داخل خزانة الكتب. كانت تحتوي هذه المكتبة الصغيرة على أحلام وأمانٍ كثيرة. ففيها سلسلة قصص محمّد عطيّة، من "راعية البط" و"الملك العادل" و"الأميرة الحسناء" و"البنت الوحيدة" وغيرها… بعدد التلاميذ، الذين كانوا يتبادلونها طوال العام المدرسي.

نام الطفل المُعاقب، ونسِيته المعلّمة ونسِيه زملاؤه. انتهت الحصّة وانتشر الجميع نحو منازلهم أو برّاكاتهم. وفي الغدِ صباحاً، فَتحت التلميذة المجتهدة المكلّفة بالكتب الخزانة، وفي نفسها رغبة لقراءة "الحمامةُ النبيلة"، فسقط الجسد الصغير، خالياً من الحياة، من الحروف، من القصص الساحرة، من الأحلام، والمعلّمة تنظر وقد أعْطت لتلاميذها درساً لن ينسوه أبداً.
لم أنس قط. ومن أقوال معشر العرب: من علّمني حرفاً صرت له عبداً!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عصا الاستعمار المنسية
لا توجد نظريّة تثبت أن التربية أو التعليم، أو التأديب بمعنى تلقين الآداب، تمرّ عن طريق العصا. وإذا كان العنف في المدارس مرسّخاً في مجتمعاتنا في صورة المعلّمين عند الجاحظ أو في الكتاتيب، فإن الاستعمار قد عزّز وكرّس في وقته، كما في المدارس الغربية آنذاك، التأديب عن طريق الضرب والتعنيف. وإذا كان الاستعمار الفرنسي قد ولّى وتراجع عن طريقته في التعليم، فإنّه قد نسيَ للأسف عصاه في بعض بلداننا.


* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس

المساهمون