المعلّم حسن.. الطفل الذي أصبح رجلاً رغماً عنه

القاهرة

العربي الجديد

لوغو العربي الجديد
العربي الجديد
موقع وصحيفة "العربي الجديد"
25 يوليو 2015
+ الخط -

كثيراً ما تكون الحياة غير منصفة، فيقع بعضنا ضحيتها. حسن واحد من هؤلاء، كبر سريعاً ليحظى بلقب "المعلّم" ويرث عن والده دكانه وشقاءه.

حين يفرض القدر على المرء أن يتحوّل "رجلاً" منذ نعومة أظافره، تُختزل طفولته وتضيع براءته. هذه حكاية حسن أو "المعلم حسن" ماسح الأحذية وصاحب دكان أبيه لتصليح الأحذية. وفي حين قد ينظر بعضهم إليه بعين الشفقة إذ إنه لم يعش طفولته، فإن آخرين قد يعبّرون عن إعجابهم بهذا الصغير الذي حوّلته الحياة رجلاً مسؤولاً يتحمّل ما يتحمله الرجال من دون كلل ولا ملل.

حسن في الثانية عشرة من عمره، إلا أنك لن تحتاج إلى أكثر من ثوانٍ معدودة عند محادثته لتشكّ في ذلك. أنت سوف تشعر أنك أمام رجل مسؤول عن بيت وعائلة وشابتَين تتهيآن للزواج وأمّ يأبى ابنها الصغير أن تخرج إلى العمل. هو تكفّل بجميع أفراد أسرته وغضّ الطرف عن حقه في اللعب مثل رفاقه وعن شرائه الحلوى التي يشتهيها أو حتى مشاهد المباريات الرياضية والأفلام. "ما عنديش وقت. عندما توفي أبي، كنت في الثامنة من عمري. ووجدت نفسي رجلاً غصباً عني. هو كان له دكان صغير، يصلح فيه الأحذية ويلمعها، وكان أهل المحلة كلهم يقصدونه". هو يعلم، جيداً، أن الناس هؤلاء غلابة، يصلحون أحذيتهم مرة واثنتين وثلاث مرات. هم لا يملكون الأموال لشراء حذاء جديد، كلما اهترأ القديم.. "مصائب قوم عند قوم فوائد".

كان والد حسن يُعرف بـ "الأسطى محمود"، وكان دكانه الصغير مليئاً دائماً بالأحذية القديمة والشنط والمصنوعات الجلدية التي تتطلب التصليح. والوالد لم يكن يغادر الدكان إلى حين الانتهاء من تصليح كل الأحذية والحقائب، "وهو كان يطلب مني أن أرافقه إلى الدكان وأفوّت المدرسة لأساعده وألمع الأحذية، بينما هو يصلحها". أما حسن فكان يراقب الأطفال من "أبناء الحتّة" في طريق عودتهم من المدرسة، "وأنا كنت أعرف معظمهم وأعرف أمهاتهم اللواتي كنّ يقصدن الدكان لتصليح أحذيتهم". لكن والده غالباً ما كان يقول له: "أنت أحسن منهم لأنك رجل وهم أطفال. أنت تكسب من عرق جبينك وهم يأخذون مصروفهم من أهلهم".

اقرأ أيضاً: التسوّل.. "كابوس" مصر اليومي

وراح المعلّم حسن يشعر أنه يتفوّق على هؤلاء وأنه يسبقهم في السنّ، "فأنا بدأت الحياة مبكراً. كان أبي يعطيني جنيهَين في آخر اليوم، وكنت أشتري بهما أي شيء. المهمّ كان شعوري أنه ليس مصروفاً وإنما جزء من أجري". وفجأة مات الوالد، بعد صراع مع مرض خبيث لم يكن يعلمه. حسن لم يره، يوماً، يذهب إلى الطبيب، ولم يسمعه أبداً يشتكي إلا في بعض الأحيان، من الإرهاق ومن زحمة العمل والزبائن. "هو كان يحاول إرضاء الجميع".

في ذلك الحين، "شعرت أمي أنها في ورطة كبيرة. لدي أختان على وشك الزواج وأخ أصغر في الصف الثاني ابتدائي. كان دخل الدكان يكفينا وأبي كان يلبّي كل متطلبات البيت منه. وكان كلما دبّر مبلغاً من المال، يعطيه لأمي لتشتري بعضاً من جهاز أختَيّ". قرّرت والدته العمل إذ إن ابنها لن يستطيع العمل في الدكان وحده. أما هو فرفض، "أبي لم يسمح لأمي ولا لأختَيّ بالعمل، ولا حتى بمساعدته في الدكان". واحدة من شقيقتَيه تحمل دبلوم تجارة والأخرى شهادة الإعدادية، وكان الوالد يرفض أن تعملا قبل الزواج. بالتالي رفض حسن أن تساعده والدته في الدكان.

في كل يوم، يترك حسن منزل العائلة عند العاشرة صباحاً أو الحادية عشرة قبل الظهر، ولا يعود إلا بعد الانتهاء من كل طلبات الزبائن تصليحاً أو تلميعاً. "لم أكن أشعر بالضيق. الكل يناديني المعلّم حسن في حين كان أبي ينادى بالأسطى محمود. هم يشجعونني للاستمرار في تحمّل المسؤولية وتلبية حاجات الناس". تجدر الإشارة إلى أن كثيرين لا يشترون أحذية جديدة بل تلك المستعملة، ويقصدون "المعلّم حسن" ليصلحها لهم.

وكما كان يفعل والده، راح حسن يخصّص، يومياً، خمسين جنيهاً (7 دولارات أميركية) للبيت، فيعطيها والدته لتتدبر أمور المعيشة، والمتبقي من دخل الدكان يشتري به بضاعة وورنيشاً وجلوداً وغيرها من مستلزمات تصليح الجلديات. وما يفيض أسبوعياً، يخصّص لجهاز الأختَين.

وشيئاً فشيئاً، راح حسن يشعر بفارق بينه وبين الآخرين، "خصوصاً رفاقي من أبناء الشارع. أنا كنت أغوص في المسؤولية، أما هم فأطفال يلهون ويلعبون". وراح يتردد على أحد الجوامع ليتعلم القراءة والكتابة. "قررت أن أدرس مثلهم. في الأيام التي أنهي بها عملي باكراً، كنت أقوم بذلك. وقد شجّعني أحد المدرسين في الشارع". هو كان معجباً به، وشدّد على أنه لا بدّ له أن يتعلم القراءة والكتابة والحساب على أقل تقدير، حتى يعرف ما الذي يدور من حوله ويتمكن من حسابات شغله.

واليوم، ما زالت أحلام حسن متوقّفة عند أحلام والده بتزويج أختَيه وسدّ حاجات البيت والحرص على والدته معزّزة مكرّمة.

اقرأ أيضاً: عمالة الأطفال "مبرّرة" في مصر
دلالات
المساهمون