المعلّم الكورد.. على سواحل الأخوّة الموسيقية

04 ابريل 2016
المعلّم عبد الله الكورد (العربي الجديد)
+ الخط -

حين كوّن السلطان مولاي إسماعيل (1672- 1727) جيشه الضخم المُسّمى بجيش "بخارى"، لتأسيس دولة مغربية تنطلق من مكناس وتمتد إلى الجزائر وموريتانيا، استجلب "الرقيق" من دول جنوب الصحراء الأفريقية. ونقلهم عبر مراكب بحرية إلى المغرب حتى أقصى شماله، ومنهم من نقلته "تجارة العبيد" إلى أميركا أو أوروبا، تلك المراكب والمراسي التي وقفت فيها كانت شاهدة على أغانيهم التي تحولت لاحقا إلى "قناوة" في المغرب و"جاز" في أميركا.

تشكّل هذان النوعان الموسيقيان من أصل واحد، لكن الظروف التاريخية والسياسة والاجتماعية بل والدينية غيّرت في مصير كل منهما، فـ "عبيد" المغرب حصلوا على حياة أقل بؤساً مقارنة بـ "عبيد" حقول القطن على أطراف المسيسيبي؛ تمكنوا خلالها من مخالطة أسيادهم وشيوخهم، ليجدوا أنفسهم في بيئة شجعتهم على إطلاق نداءاتهم الغنائية على الملأ.

لذلك، تعتبر "قناوة" غناءً ورقصاً آخر موسيقى تراثية ابتدعت في المغرب بعد مجايلة عبيد البيوت لشيوخ عيساوة وجيلالة وحمادشة وهدّاوة والأمازيغ والصحراويين، فتأثروا بطرقهم وأخذوا عنهم لكنهم حافظوا على نداءاتهم الوثنية والتي تحوّلت لاحقاً إلى نداءات ذات مقدس إسلامي ظلت حبيسة المواسم والمناسبات وطقوس شعبية.

في 1967 التقى مغني "قناوة" عبدالله الكورد بمغني الجاز الأميركي الشهير راندي ويستون في مدينة طنجة الذي جاء بدوره باحثاً عن جذوره وإخوته، وبغض النظر عن صلة الدم بينهم، فيجد الكورد نفسه محاطاً بمسؤولية "ردّ الاعتبار" و"البحث عن الإخوة" للقناوة المغربية الشفوية بعد أن سقطت في الشعبوية والشعوذة وفي حالة فوضى.

ولد الكورد في طنجة عام 1947 في وسط اجتماعي حافظ على طقوسه الأسبوعية وتقاليده في غناء "قناوة"، جايل الكبار وحفظ عنهم القطع (الأغاني أو الأشعار) ثم تعلّم الرقص الاستعراضي إلى جانب بحثه المتواصل في تاريخ "قناوة". وفي 1993 بعدما توصل مع ويستون على مفتاح موسيقيّ استطاعا من خلاله الجمع بين الجاز وقناوة، بعد أن كانت الأخيرة منغلقة على محليتها وشخوصها، فأخرجها من مأواها إلى خشبات العالم في أميركا وأوروبا.

بعد أن حصل على لقب "معلم" مستوفياً شروط اللقب، تمكنّ الكورد من تهذيب بعض طقوس "قناوة" وتعديل الحكي التلقائي غير المفهوم في القطع، ومبتكراً لقطع جديدة مثل "موسو موسو"، "يا لِبْنات"، "يا سيادي"،... محافظاً على تراث الطريقة وقواعدها ولغة أشعارها المختلطة بين العربية والأمازيغية والإفريقية.

يستفرد المعلم الكورد بإحياء الليلة الشعبانية أو "الترحم" الخاصة به من عام إلى آخر احتفاء ببداية العام الجديد حسب تقويم الغناويين، وتحتاج الليلة إلى الطريقة بآلاتها، الطريقة "الهجهوج" و"القراقب" الحديدية والطبول، والاستعانة بـ 240 قطعة (أغنية) مقسمة على سبعة ألوان أساسية وخمسة أخرى ثانوية (اللون يختاره المتحيّر أو حاضر الليلة) ولمقام الموسيقى الخماسيّ الحزين، إضافة إلى ملابس خاصة تأخذ هيئة السمكة ومزوقة بالأصداف حتى تكتمل "ليلة شعبان". تبدأ الطقوس بـ"الدخلة" إلى البيوت، ثم جلسة الشاي ويعزفون فيها باستخدام آلات ولاد "بامبرا" أي الزنوج، ثم الجلسة الروحانية. وقد تتجزأ الليلة وتقتصر على المرح أو التسامح أو طلب العفو أو يجمعون بينها.

أسس المعلم الكورد جمعية "دار غناوة" في طنجة عام 1989 قريبة من المرسى القديم، وقد حافظ بذلك على العلاقة بين الموسيقى والمكان، حيث تقسم القناوة في المغرب إلى قناوة مرساوية، تتركز في مدن السواحل، وقناوة غرباوية تنتشر في المدن الداخلية والصحراوية تختلفان بترتيب القطع واللهجة."

لا ينفصل الجسد عن موسيقى "التحيّر"، بل حافظ الكورد على الرقص الاستعراضي المتوارث في لوحاته الموسيقية على أنه مساعد للتعبير عن قصص العبيد وماضيهم وردّ فعل لهما، يأخذ هيئة حوار بين الراقص والعازف، وكأنّه نداء متواصل بينهما.

في المعظم، يعزف الكورد على المسرح باختيار اللون الأزرق وقطعه، مصاباً بالحنين للحظة نقل أجداده عبر المراكب البحرية حيث كانوا يناجون النبي موسى لينقذهم من أهوال البحر، كذلك يتلاقى في هذا اللون مع جاز الأميركي ويستون وحزنه. إلى ذلك، حرص الكورد على اختيار مواضيع لقطعه المبتكرة تراعي ذائقة جمهور قناوة ولا تنطوي على خداعهم بكلام غير معروف؟

ينطلق "المعلم" في مشروعه الموسيقيّ سواء "ردّ الاعتبار" أو "البحث عن الإخوة" من قاعدتين أساسيتين: البحث والمعرفة، فعادة يشارك الكورد، الذي يتقن الإنجليزية، في حلقات نقاش أكاديمية عن الموسيقى التقليدية المغربية "غناوة" على صعيد دولي، الأمر الذي أوصله مع ويستن إلى جائزة "غرامي" في هوليوود. كذلك، يصمم على تأصيل القناوة المرساوية سواء من خلال تعليمها للآخرين أو تطبيقها، وعلى أن تظل "غناوة" موسيقى ومسرح أي رقص استعراضي.

مسار فني شخصي طويل يستعد الكورد لأن يوثقه في كتاب يتناول سيرة حياته الذاتية، إلى جانب إضافاته وإنجازاته الشخصية في عالم "غناوة" وتصوراته وتعريفه الخاص بهذه الموسيقى، وتاريخها وجذورها، فضلاً عن طريقته الخاصة في الغناء.

دلالات
المساهمون