بدت محاضرة عالم الرياضيات الفرنسي سيدريك فيلاني (1973) احتفائية حين خصّصها لشكر من سمّاهم "أبطاله"؛ عالم الرياضيات الألماني برنار ريمان والفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان والاقتصادي الروسي ليونيد كانتوروفيتش، ثم شكر بعدهم زملاءه الحاليين الذين يشاركونه أبحاثه في جامعات متفرقة من العالم، في ألمانيا وأميركا وتونس وغيرها.
كانت المحاضرة ضمن جولة قام بها فيلاني في تونس الشهر المنقضي، وكانت تحمل عنوان "مثلثات، غازات، جوائز/أثمان ورجال". قد يبدو هذا البعد الاحتفائي بعيداً كل البعد عن الرياضيات، خصوصاً بتعريفها الأشهر كـ "علم للمجرّدات"، لكن فيلاني يقول عكس ذلك، فهذا العلم - وكل العلوم – هو عملية تراكم للأفكار، غير أننا ننسى كيف تأتي هذه الأفكار لتبني التراكم المنتظر.
يقول فيلاني "ببساطة، الرياضيات هي تلك الرحلة بين الأماكن وبين الأفكار وبين الأشخاص، وليست تلك التي نتحرّك فيها بين النظريات والمبرهنات".
ومن خلال محاضرته، يبيّن أن المعادلات والمبرهنات Theorems التي توصّل إليها ومكّنته من أبرز تكريمات مجاله المعرفي هي أفكار التقطها من مجموعة انتقالاتٍ، فمثلاً يقول "إن الفكرة التي مُنحتُ من أجلها "ميدالية فيلدز" جاءتني مصادفة في حديث مع صديق في أميركا"، أو إن "الفكرة التي طوّرت بها نظرية الغازات لبولتزمان وجدتها في مخطوط مكتوب بالألمانية مكّنني منه صديق ألماني".
مثل الرياضيات، تحتاج جميع المعارف إلى هذه الحركية واللقاءات الحيّة بين العقول. صحيح أن التكنولوجيا قرّبت المسافات، غير أن شهادة فيلاني تؤكّد بأن اللقاء البشري لا يزال على قدر من الأهمية في تطوير أكثر المعارف تجريداً، فما بالنا بأكثرها التصاقاً بالإنسان.
رؤية فيلاني قد تكون وسيلة لفهم أحد عوامل بطء تطوّر العلوم في البلاد العربية. فإذا أخذنا الباحثين العرب كذرّات وقارنّا تحرّكها في المجال الكوكبي بتحرّك باحثين من مناطق أخرى، فإننا سنجد بطئاً، إن لم نجزم بأن الفضاء العربي يكاد يكون مغلقاً على نفسه.
قبل هذه الحال، اتبعت البلدان العربية لعقود طويلة نظام البعثات، وأفضى في أغلب التجارب إلى استنتاج هو "نزيف الأدمغة الذي ينبغي أن يوقف"، ولكن وقف هذا النزيف جرت معالجته بـ "تجميد الأدمغة".
في نفس الوقت تعولم العلم، وبات تطوّره محكوماً بحركية المشتغلين فيه، أما من دخلوا في حسابات ضيّقة، فقد حكموا على أنفسهم بالبقاء في الهامش، فيما يتطوّر الآخرون ويتحرّكون بلا هوادة.