المصير المؤلم لـ"عَمَارة": عارٌ استعماريّ

15 مايو 2019
فؤاد منانة في "عَمَارة" ميشولون (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
هل تَخيَّل الفلّاح الجزائري عَمارة منانة، يومًا، أن حياته ستنتهي في غويانا الفرنسية؟ هل تصوَّر حفيده فؤاد، وهو يقرأ في طفولته رواية "الفراشة" (1969) للفرنسي هنري شاريير (1906 ـ 1973)، أن جدّه سيكون كبعض شخصياتها المُبعَدة ظلمًا إلى الجهة الثانية من الكرة الأرضية، قبالة سواحل المحيط الأطلسي؟ ولولا تقارب تجربة الجزائري مع حكاية السجينين، ستيف ماكوين (1930 ـ 1980) وداستن هوفمان (1937)، في "الفراشة" (1973)، التحفة السينمائية لفرانكلين شافنر (1920 ـ 1989)، أكان سيهتمّ المخرج الفرنسي بيار ميشولون (1984) في توثيق رحلة البحث عن مصيره المجهول؟ 

أسئلة ترد في سياق مشاهدة الوثائقي "عَمارة" (إنتاج فرنسي جزائري، 2018)، من دون أن تشترط أجوبة. فقصّة الفلّاح الجزائري، المُبعَد عام 1926 من قسنطينة إلى غويانا، أخذت مناحيَ عديدة، وتنقّلت بين جغرافيات مختلفة التضاريس، في طياتها تكمن إجابات، وتطرح مساراتها الملتوية أسئلة جديدة عن المصائر العجيبة للبشر.

على جوهر الفعل لا النتائج اشتغل بيار ميشولون. وبحكم دراسته الأكاديمية، وأطروحته السينمائية حول "التسفيرات الكولونيالية" للسكّان الأصليين، انجذب إلى قصّة عَمارة، وانكباب حفيده فؤاد على معرفة ما حلّ به في منفاه.

البحث عن الجذور باتَ شاغلهما. كلُّ واحد منهما يعمل عليه من زاويته. فؤاد، الخمسينيّ، مُهاجِر إلى الولايات المتحدة الأميركية، يبدأ ـ تحقيقًا لرغبة والده الراحل بحسرة في معرفة حقيقة ما جرى لأبيه عَمارة ـ رحلة بحثه "الذاتي" من ولاية كولورادو. من جهته، يتواصل المُخرِج مع الحفيد، بحثًا عن الجذر، ومُحمَّلاً بشعور المسؤولية الأخلاقية، لفضح ما فعله "أجداده" بسكان مستعمراتهم.
في الجامع بينهما، وللتحرّي عن الجزائري المُبعَد، اختطّ ميشولون مسارًا حكائيًا متشعّب الدروب، وغائرًا في تواريخ وأرقام ملتبسة، مطموسة حقيقتها في مجاهل الذاكرة والجغرافيا، ولا تُوصل الباحث فيها إلى خاتمة.

لا يُعرف متى بدآ العمل معًا. لكن الظهور الأول لفؤاد على الشاشة يُخبر أن صلتهما تأسّست منذ مدة غير بعيدة، لأن المُخرج يطلب منه، أثناء تصويره للمرّة الأولى، قراءة نص مكتوب أمامه، يُعيد فيه ما سمعه عن جدّه من والده، ليبني عليه مسار فيلمه الوثائقيّ.

الحكاية المنقولة تقول إنّ السلطات الفرنسية أرادت بناء مطار جديد في ولاية قسنطينة، وإنّ أرض جدّه عَمارة، في بلدة خروب، تقع في المساحة المخصّصة له. السلطات الفرنسية طلبت منه التخلّي عن الأرض من دون دفع تعويضات. شَعَر الجدّ بالظلم والحيف، فقرّر إضرام النار في أنحاء المديرية احتجاجًا. حُكم عليه بالطرد من الجزائر إلى غويانا، والسجن 8 أعوام. منذ ذلك الوقت، انقطعت أخباره، باستثناء نتف مبعثرة، نقلها قادمون من هناك، أكّدوا زواجه في منفاه القسري.

من الحكاية المتوارثة، انطلق فؤاد في تتبّع حياة جدّه في غويانا، وتواصل مع المُخرِج، مُخبرًا إياه بكلّ تطوّر يحصل معه.

مراسلاتهما الإلكترونية تقسِّم زمن الوثائقي (118 دقيقة) إلى قسمين: كلام مكتوب، وصُوَر. الأول غارقٌ في الخيبة والضياع في دوامة سجلّات أرشيفية ومعاملات بيروقراطية، ما يرشح منها بالكاد يساعد الباحث على المضي خطوة واحدة إلى الأمام. فما كان يظنّه فؤاد يقينًا، بات سرابًا. لا اسم جدّه موجود في سجلات المحاكم الفرنسية، ولا مُدرج في قوائم المُرَحّلين، ولا دليل على وجوده أصلاً في غويانا الفرنسية. فكرة التواصل مع الفرع "الجديد" لعائلته، خلال زمن طويل من البحث في أرشيف "مناطق أعالي البحار"، بدت عديمة الجدوى.
المراسلات، المنقولة على شاشة الحاسوب كما هي، أدّت فعلها المُحبِط، فيما كانت الصورة تؤدّي عملًا بصريًا، مُحمَّلًا بالرموز. اشتغال مُنْصَبٌّ على تصوير الطبيعة في ثلاث مناطق، زحفت إلى أعماق تربتها جذور عَمارة: كولورادو الأميركية، وسواحل كايين، وقسنطينة الجزائرية. تضاريس لا تحدّها حدود للناظر إليها بتجرّد وتأمّل. البحر والسماء والطيور لا تعرف حدودًا، ولا تعي معنى الرحيل وقطع صلات بشر تجذّروا في بيئات ثابتة. مرارة المنفى تأتي من الابتعاد القسري عنها، وفي المتن السردي لـ"عَمارة"، أُريد لها أن تنجلي بالمقارنة الحادّة بين المكتوب على شاشة الحاسوب، وتفاصيل جغرافيات مفتوحة على اللانهائي، وهذا كلّه التُقِط بكاميرات فُتحت عدساتها على سعتها.

يفعل الأمر السلطوي فعلته العجيبة. يُرَحَّل بشر من مكان إلى آخر. المكان الجديد يصبح هو الآخر مرهونًا بالفعل الأول. سكان غويانا المعارضون للاحتلال واجهوا المصير نفسه للمُرَحّلين إليها. شواهد السجون المشتركة لا تزال موجودة، كأبناء المنفيين. يعرفون أصولهم، لكنهم لا يريدون تذكر ماضي آبائهم وأجدادهم.

رحلات بيار ميشولون إلى غويانا، أكاديميًا ووثائقيًا، تنقل مُشاهد الفيلم إلى أرض شهدت فظاعات بشرية. ولشدّة ما تلقّاه المنفيون فيها من صنوف العذاب، سُمِّيَت بـ"أرض الرعب". الواصل إليها لا يخرج منها حيًا، إلا نادرًا. تكذيب القصّة الرسمية لأسباب الحكم عليه وترحيله، تركها فؤاد لإخوته في الجزائر كي يتابعوها، فما سمعه وعرفه عن عذابات جدّه تركه مذهولاً.
المساهمون