المشككون في الثورة... انعدام الفعل والارتهان للواقع

25 ديسمبر 2019
+ الخط -
تمرّ على لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي مرت على البلاد منذ زهاء الثلاثين عامًا، ومع بداية الحلقات الأخيرة من تفجر هذه الأزمة البنيوية التي تصيب الاقتصاد اللبناني، اشتعل الحراك في مجمل المناطق اللبنانية ليطالب بإحداث تغييرٍ حقيقيّ في التركيبة السياسيّة الحاكمة، إذ غاصت الطبقة الحالية ببحرٍ من الفساد لا قرار له، وهو فسادٌ مستشرٍ أدى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والمالية بشكلٍ حاد، ليس للثورة من هذا الواقع، إلا تعرية حلقات الانهيار الأخير، وهي التي نعيشها اليوم، من تراجع مضطرد للقطاع المصرفي، وشحّ الدولار الأميركي من الأسواق، وما يتصل بذلك من التضخم، وغيرها من الإشكاليات التي تمسّ معيشة اللبنانيين وتهدد مؤسساتهم.

ابتدأت الكلام عن هذه الأزمة الراهنة وإلى الشق الاقتصادي منها، لألج منه إلى فئة من ينتقد الثورة، ويشكك فيها، وهم فئةٌ من اللبنانيين لم تشارك في الحراك والمظاهرات والاعتصامات، ولم تُعلن تأييدها الكامل لها، كما لم تعلن رفضها الثورة بشكلٍ كامل على غرار أزلام أحزاب السلطة والمستفيدين من الواقع السياسي والفساد في البلاد. بل هم فئةٌ ليسوا في المنتصف تمامًا، بل شكلوا بيئةً رافضة ليس للفساد السياسي أو المالي والإداري بكل مراحله على مدى العقود الماضية، بل رفضوا كل ما حملته الثورة من متغيرات على الصعد المحلية كافة، بل وصل رفضهم إلى حدّ استهداف أي خطوة يقوم بها الحراك.

وقبل الحديث عن هؤلاء، سينبري بكل تأكيد من يسلط الضوء على الكثير من الممارسات التي تضمنها الحراك، وهنا لا شكّ في أن العديد من الممارسات والتجاوزات لا يمكن التغاضي عنها، فقد أثرت بالكثيرين، ولكنها مهام علت واستفحلت، لا تصل إلى عشر معشار الفساد الذي قامت وتقوم به السلطة، ولا يمكن بحال من الأحوال وضع الفعلين في ميزانٍ واحد.


ونعود للمشككين، لم يأخذ هؤلاء المشككون موقف المتفرج أو المتابع لما يجري فقط، بل كان كثير منهم ومنذ الأيام الأولى ينتقدون كل ما تخرج به الثورة من شعارات ومطالب وأدوات تعبير، وقد تجلّى هذا التشكيك في ثلاث محطات أساسية، وقبل الخوض فيها، أودّ الإشارة إلى عدم مناقشة صوابية هذا الطرح من عدمه، بل أورد قضية التشكيك الدائم وطرح الأسئلة الفضفاضة على الثورة، من دون المبادرة والانخراط فيها، والعمل على رفد مكوناتها، أو تقديم حلولٍ أخرى يمكنها أن تحدث التغيير المأمول، فهو نقدٌ دائم، وتأفف من الواقع الجديد الذي فرضته الثورة.

أعود إلى المحطات الثلاث التي أطنب فيها المشككون، وهي:
- قطع الطرقات.
- إغلاق المدارس والجامعات.
- شعارات الثورة: شمول الطبقة السياسية بكاملها، و"كلن يعني كلن".

شكّل قطع الطرق الوسيلة الأولى للثورة للضغط على السلطة السياسية، ومع شل الحركة في البلاد، بدأ المشككون في هذه الخطوة، مستخدمين كل الحجج الممكنة، ومع إعادة تأكيدي على وجاهة كثير مما طرحوه، ولكنه ليس ترشيدًا للفعل الثوري، بقدر ما هو تسجيل نقاطٍ على الحراك، إذ وصفت هذه الأعمال بالطائشة، والصبيانية، وإضرارها بالاقتصاد وغيرها الكثير، ولكنهم لم يقوموا بأي خطوة أو طرح عملي لبدائل عن هذه الخطوة، وظلّ التشنيع هو السمة الرئيسة، ليس بحق من يقوم بهذه الأفعال، خاصة أن العديد ممن قطع الطرق لم يراع ظروف المارة والمواطنين، ولكن طائفة المشنعين استهدفت الثورة بكليتها، في حين لم يُسمع لها صوت عندما قطع أتباع السلطة بعد أحداث التكليف الأخيرة.

أما ثاني هذه المحطات، ألا وهو إغلاق المدارس والجامعات، خاصة في المناطق الشمالية والبقاع، التي استمر الإغلاق فيها لفترة أكبر، فقد كانت نقطة من النقاط الحامية، فبدأت معزوفة التحسر على العام الدراس ومستقبل الطلاب، على الرغم من أن إضرابات القطاع التعليمي الرسمي والخاص خلال الأعوام الماضية تكررت بشكلٍ كبير، وأثر بعضها على الشهادات الرسمية، إذ أصدرت الوزارة حينها إفادات لجميع الطلاب، وقد كان موقف الكثير من الثوريين تفهمهم لهذه التحذيرات، بل دعا بعضهم إلى توحيد قرارات الفتح والإغلاق، بما لا يضر مصالح الطلاب ولا ينهي مشاركتهم في الاحتجاجات، ولكن طائفة المشككين بقيت في نعيقها.

وثالث هذه المحطات شعارات الثورة وما اكتنفها من شتائم وغيرها، فانبرى هؤلاء حينًا لترشيد الخطاب والبعد عن السباب وغيرهما، وحينًا لمحاولة إبعاد فلان أو علان من السياسيين عن هذه الشعارات، وكأن الفعل الثوري عليه أن يكون ملائكيًا، أو طوباويًا، وهو التبرير الذي سمح لأزلام السلطة أن يطلقوا تبريراتهم المهترئة، وأضحى الشعار كلهم ما عدا زعيمي وابن طائفتي، ولو كان أكبر الفاسدين والمفسدين.

هذه النقاط الأساسية وغيرها الكثير هي التي شكلت حالة التشكيك في هذه الانتفاضة الشعبية التي تجاوزت شهرين من العمر، وهي حالة تؤكد انعدام الفعل لدى شريحة لا بأس بها من المواطنين، فلم يكونوا قادرين على مواجهة الفساد وأركانه، فواجهوا الانتفاضة الشعبية وجعلوا من نقدها مدار تحركهم وتفاعلهم، وهي حالة من الارتهان للواقع، والخوف الدائم من القادم، إذ يحذرون دائمًا من الاقتتال الداخلي القابع في الأفق، ومن شبح الحرب الأهلية، متناسين دوافع من خرج في هذه المظاهرات والاعتصامات طيلة هذه المدة، في تأكيد عملي لحالة الخوف من الطغمة السياسية، ما يجعل انتقاد الثورة أسهل وأقل كلفة بكثير من التصويب على الواقع السياسي.

أخيرًا، يمكننا تفهم موقف هؤلاء ودوافعهم، ولكننا لا يمكننا تفهم تحولهم بمعرفة أو بدونها إلى أبواق للطبقة السياسية، كما نتفهم الكثير مما يطرحونه، وضرورة تحول هذا النقد لترشيد للفعل الثوري، وإصلاح من خلال المشاركة الفاعلة على أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بالتنظير السلبي، بالتزامن مع المحاولات الحثيثة للسلطة السياسية لوأد هذه الثورة، والعودة إلى المربع السابق، وإلى ثالوث الفساد والطائفية والاستبداد، الذي سمّم لبنان طيلة السنوات الماضية.
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".