المسيري وكاتب الاستدعاءات

01 سبتمبر 2015

المسيري: إسرائيل ليست أكثر من دولة وظيفية

+ الخط -
أتفق مع كاتب استدعاءات جوازات السفر في بلدي، وفي المقابل، أختلف مع المرحوم الباحث عبد الوهاب المسيري. 
والحال أنني كنت، إلى وقت قريب، من أشد المولعين بموسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" للمسيري الذي أقنعني، بالأدلة والبراهين والمنطق، أن إسرائيل ليست أكثر من دولة "وظيفية"، تواطأ الغرب كله على إنشائها للخلاص من المعضلة اليهودية في بلدانه، وأسند إليها دور رأس الحربة في المنطقة، لإبقاء العرب على تخلفهم وتمزقهم وصراعاتهم الداخلية، محققا بذلك هدفه في ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول إسرائيل بالطبع، والثاني ما عدت أذكر اسمه.
في الجانب الآخر، أتفق مع كاتب استدعاءات الجوازات الكهل الذي أعرفه منذ أصدرت أول جواز سفر لي، قبل أزيد من ثلاثين عاما، فقد اعتدت أن أقصده لتدوين معلومات تجديد الجواز، على طاولته الخشبية المهترئة.
وقيّض لي أن أعيش تحولات هذا الكهل منذ كان شاباً، غير أن أكثر ما كان يلفت انتباهي فيه رحيله الدائم من موقع إلى آخر، تبعاً لترحيل دائرة الجوازات نفسها التي تغير موقعها مرات، وفي كل مرة أجده قابعا على طاولته المتهالكة أمام الموقع الجديد للدائرة، كأنها فلكه الذي يدور فيه، ورئته التي يتنفس منها بأنابيب اصطناعية، وحتفه الذي يتربص به لو حدث يوماً وتوقفت هذه الدائرة عن دورانها المكرور في إصدارات جوازات السفر وتجديدها.
وعلى غرار الكهل نفسه، رأيت أصحاب المقاهي السريعة، والمترجمين، وماسحي الوثائق، والمصورين، المحيطين بالدائرة، يمارسون الهجرة الجماعية نفسها، من الموقع القديم إلى الجديد، لحاقاً بتلك القلعة الشاهقة، كقوافل البدو الرحّل خلف الكلأ والماء.
أراهن أن صديقي الراحل عبد الوهاب المسيري لم يلحظ رحلة الشتاء والصيف هذه، وإلا لأدرك معي أن العرب أنفسهم هم أصحاب الدول "الوظيفية" في المنطقة، ضمن تقسيمات سايكس وبيكو التي جعلت من إسرائيل أشبه بدائرة الجوازات التي تم نقلها من بلدان الغرب، وتبعها كتبة الاستدعاءات من الأنظمة العربية، ببلدانهم الصغيرة المجزأة، والمخترعة أيضاً، ليكونوا حرساً للقلعة فلا يتورعوا عن قتل كل من تسوّل له نفسه اختراق حدودها المقدسة، أو حجّاباً لإدخال الثروات إلى القائد الأعظم.
لم يتغير الكثير في رحلة البداوة العربية التي لم تعرف، يوماً، معنى الانتماء لرقعة جغرافية أو مبدأ فكري أو رابط ديني أو قومي، ولئن كانوا يرتحلون سابقاً بقبائلهم، فقد أصبحوا اليوم يرتحلون بدولهم، ويقدمونها رخيصة بشعوبها ومواردها لإسرائيل. أما في أوقات قيلولة الأخيرة، بين مذبحة وأخرى، فإن رحلة الشتاء والصيف تتجه لأداء أدوار "وظيفية" أخرى مع قلاع "البيت الأبيض" أو "الكرملين". ولا ضير من المزاوجة، أحياناً، بين ثلاثة أو أربعة أدوار معاً، لأن العرب الرحّل غدوا أكثر تطوراً وحنكة، بعد أن صاروا يستخدمون الطائرات وسيارات الدفع الرباعي بدل الإبل، في نقل أقطارهم من صحراء إلى صحراء.
وأما دولهم فمشدودة بأنابيب إلى الرئة الإسرائيلية، تتنفس منها وتحيا على بقائها، وتعرف جيداً أن زوال إسرائيل يعني حبس الهواء عنها، ومن ثم زوالها هي. ولذا، تراها أشد حرصاً على حياة إسرائيل وتوطيد أركانها، وتجنب حردها، ولو على حساب شعوبها ومقدراتهم ومواردهم وثرواتهم .. و"ثوراتهم" كذلك.
كم قطراً عربياً سيهوي مع إسرائيل، سؤال ربما لن يعرف الإجابة عنه سوى صديقي الكهل الذي يدور حول دائرة الجوازات في بلدي منذ ثلاثين عاماً، لأنه لم يفكّر يوماً بكسر ضلع الدائرة الرتيبة التي تلتف حول عنقه، وتضيق عليه كلما ارتحلت مشنقته من مكان إلى آخر، وصولاً إلى الاختناق الأخير، حين ينتهي دوره "الوظيفي" تماماً.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.