على مدخل إحدى دور السينما في ميامي الأميركية، وبدلًا من إعلان اسم الفيلم المعروض، عُلّقت على مدخل القاعة يافطة تقول: "لأن الحياة الواقعية صارت تبدو مثل الأفلام، السينما مُغلقة حتى إشعار آخر. كونوا لُطفاء، كونوا بخير". وهذا طبعًا بسبب أزمة كورونا التي ضربت العالم مباغتة، خاطفة إياه من تسارعه الحاد، لتبطئ سيرورته وتوقفه قليلًا.
الحديث هُنا عن المسرح، لكن السينما ليست إلا امتدادًا فنّيًا وخليطًا بين فنون عدة، أولها المَسرح. وهناك حوار دائم في الآونة الأخيرة حول السينما وعرضها في دور السينما أو على خدمات البث عبر الإنترنت، ولعل التسمية الإنكليزية لكليهما (المسرح والسينما) بـ Theatres تسعفنا أكثر من التسمية العربية.
منذ بداية المسرح وعلى مرّ عصور تطورهِ، كان الجمهور عُنصرًا أساسيًا في تكوينه، ولاعبًا حاضرًا في إنتاجه، بل تعدى ذلك ليكون مقياسًا لنجاح العمل، فالمسرح وعلى خلاف الفنون الأخرى ليس ذاتيًا، وإنما يُكتبُ ليمثّل على خشبة أمام مجموعة من الأشخاص، ولا يمكن تغييب الجمهور في أثناء الكِتابة، بل يجب تضمينهم ليكون التمثيل حاضرًا ومفهومًا له، تحت شِعار "أرني ولا تخبرني".
في دراسة له، يقول المخرج المسرحي العراقي محسن النصار: "كما لا يمكننا أن نعرف المسرح من دون ممثل، كذلك لا يمكن أن نعرف المسرح من دون الجمهور، ذلك أن الممثل والجمهور هما العمودان المؤسسان تاريخيًا للمسرح؛ ظاهرة فنية تعبيرية وفلسفية مضمونية، تنعكس في ارتباطاتها وآليات اشتغالها من خلال الصالة والخشبة". وبالتالي فإن حالة القرب ليست عرضية أو كمالية، وإنما "حالة ترتبط جوهريًا بالمسرح". حتى بداية القرن العشرين، لم يكن هناك وصفٌ للجمهور في المسارح والعروض وحتى الأفلام إلا بـ"الجمهور"، ولكن مع بداية عصر التلفاز والراديو وشبكات البث عبر الإنترنت لاحقًا، ظهر وصف جديد أجبر الكُتاب والمحررين على التفريق الاستعاري بين الجمهور المُباشِر (الحيّ)، والجمهور غير المُباشر، أي الجمهور المُتابع من خلف الشّاشَة، الجمهور الذي لا يتفاعل مع المُمثّل/المغني/المؤدّي في وقت العرض.
أبواب مغلقة
في الأشهر القليلة الماضية، أعلنت أكبر دور المسرح عالميًا (برودواي وويست إند) إغلاق أبوابها أمام الجمهور، وأيضًا للعروض، وهو ما يعطي توازيًا تاريخيًا غريبًا لمرحلة أو عالمٍ كنا نظنه آمنًا حتى وقت قريب. وفي الوقت الذي أثّر فيه "كوفيد ــ 19" على القطاعات كافّة، إلا أن تأثيره على المسرح كان تأثيرًا وجوديًا على المستوى العالمي عامةً، وعلى المستوى العربي خاصّة، إذ إن المسرح العربي هش، والعمل عليهِ ضعيف. وعلى الرغم من أن بعض المنصات الإلكترونية أتاحت المجال للممثلين تقديم عروضهم عبر الإنترنت، ولكن أمرًا ما يبقى مفقودًا في هذه العملية الرقمية، فالمشاهد "ليس موجودًا" ليشهد الأداء حيًّا، في فنٍ يكون التقارب واللمس مُهمين لحيوية العرض ونجاحهِ. يرتبط اللمس عادة بالإجراءات الطقوسية في القداس الكاثوليكي، ويقدّم عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تورنر مُصطلح الـ communitas، الذي يعني "إحساسًا مُشتركًا عن المساواة بين الحضور". وكتب المخرج الروسي الشهير قسطنطين ستانيسلافسكي عن نوع من "الشراكة والتعاون وتبادل الأفكار والمشاعر" بين الممثلين والجمهور من خلال أشعة غير مرئية للتواصل، كما تحدث عن "فهم" الجمهور واستيعابهم في لحظات الإلهام المسرحيّة الحيّة. وطوَّر صانع المسارح والناشط السياسي البرازيلي أوغستو بوال ألعاب المسرح بحيث يكون دور اللمس فيها حاسمًا لتقريب المجتمع من خلال ما سماه "مسرح المقموعين". كان التقارب والشعور من أهم الأمور التي استفاد منها المشاركون لفهم وجهة نظر بعضهم البعض واستكشاف الطرق المختلفة التي قد نشارك بها في التغيير الاجتماعي والسياسي.
اقــرأ أيضاً
من جهته، يقول أستاذ الدراما والنقد أبو الحسن سلام عبر موقع "ذي إندبندنت"، منتقدًا الكُتاب الذين يحاولون استغلال الأزمة، إن "المسرح فن المشاركة الحيَّة، اندماج بين مجتمع عارِض ومجتمع متفرِج، لا مصداقية لتأثيره عاطفيا وإدراكه بعروض تزامنت كتابة نصوصها مع آنية حدث وبائي، أكان كورونا أم أياً ما اصطلحت له من أسماء". يوافقه في هذا الكاتب والناقد المسرحي البحريني يوسف الحمدان إذ أوضحَ أن التصدي لجائحة الكورونا مسرحيًا "لا يتطلب منا مواكبة طارئة عابرة أو وقتية [...] وإنما يتطلب ويقتضي منا اشتغالا فكريا رؤيويا ينطلق ويتشكل من العمق، أو يكون موازيا ونداً لحالات التشكل في هذا الفيروس".
واستكمالًا لمسلسل التشاؤم، كان للمسرحيّ محمد الحرّ من المغرب رأي مختلف من وجهة نظرهِ، ليس للمسرح العربي ذلك الحضور والعمق والأهمية مقارنة بالفنون الأخرى، وحتى مواسم العروض، لا تتجاوز فيها العروض عربيًا أو مغربيًا عددًا مُعينًا، وبالتالي تكون هذه المواسم ضبابية حسب تعبيرهِ.
منذ بداية المسرح وعلى مرّ عصور تطورهِ، كان الجمهور عُنصرًا أساسيًا في تكوينه، ولاعبًا حاضرًا في إنتاجه، بل تعدى ذلك ليكون مقياسًا لنجاح العمل، فالمسرح وعلى خلاف الفنون الأخرى ليس ذاتيًا، وإنما يُكتبُ ليمثّل على خشبة أمام مجموعة من الأشخاص، ولا يمكن تغييب الجمهور في أثناء الكِتابة، بل يجب تضمينهم ليكون التمثيل حاضرًا ومفهومًا له، تحت شِعار "أرني ولا تخبرني".
في دراسة له، يقول المخرج المسرحي العراقي محسن النصار: "كما لا يمكننا أن نعرف المسرح من دون ممثل، كذلك لا يمكن أن نعرف المسرح من دون الجمهور، ذلك أن الممثل والجمهور هما العمودان المؤسسان تاريخيًا للمسرح؛ ظاهرة فنية تعبيرية وفلسفية مضمونية، تنعكس في ارتباطاتها وآليات اشتغالها من خلال الصالة والخشبة". وبالتالي فإن حالة القرب ليست عرضية أو كمالية، وإنما "حالة ترتبط جوهريًا بالمسرح". حتى بداية القرن العشرين، لم يكن هناك وصفٌ للجمهور في المسارح والعروض وحتى الأفلام إلا بـ"الجمهور"، ولكن مع بداية عصر التلفاز والراديو وشبكات البث عبر الإنترنت لاحقًا، ظهر وصف جديد أجبر الكُتاب والمحررين على التفريق الاستعاري بين الجمهور المُباشِر (الحيّ)، والجمهور غير المُباشر، أي الجمهور المُتابع من خلف الشّاشَة، الجمهور الذي لا يتفاعل مع المُمثّل/المغني/المؤدّي في وقت العرض.
أبواب مغلقة
في الأشهر القليلة الماضية، أعلنت أكبر دور المسرح عالميًا (برودواي وويست إند) إغلاق أبوابها أمام الجمهور، وأيضًا للعروض، وهو ما يعطي توازيًا تاريخيًا غريبًا لمرحلة أو عالمٍ كنا نظنه آمنًا حتى وقت قريب. وفي الوقت الذي أثّر فيه "كوفيد ــ 19" على القطاعات كافّة، إلا أن تأثيره على المسرح كان تأثيرًا وجوديًا على المستوى العالمي عامةً، وعلى المستوى العربي خاصّة، إذ إن المسرح العربي هش، والعمل عليهِ ضعيف. وعلى الرغم من أن بعض المنصات الإلكترونية أتاحت المجال للممثلين تقديم عروضهم عبر الإنترنت، ولكن أمرًا ما يبقى مفقودًا في هذه العملية الرقمية، فالمشاهد "ليس موجودًا" ليشهد الأداء حيًّا، في فنٍ يكون التقارب واللمس مُهمين لحيوية العرض ونجاحهِ. يرتبط اللمس عادة بالإجراءات الطقوسية في القداس الكاثوليكي، ويقدّم عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تورنر مُصطلح الـ communitas، الذي يعني "إحساسًا مُشتركًا عن المساواة بين الحضور". وكتب المخرج الروسي الشهير قسطنطين ستانيسلافسكي عن نوع من "الشراكة والتعاون وتبادل الأفكار والمشاعر" بين الممثلين والجمهور من خلال أشعة غير مرئية للتواصل، كما تحدث عن "فهم" الجمهور واستيعابهم في لحظات الإلهام المسرحيّة الحيّة. وطوَّر صانع المسارح والناشط السياسي البرازيلي أوغستو بوال ألعاب المسرح بحيث يكون دور اللمس فيها حاسمًا لتقريب المجتمع من خلال ما سماه "مسرح المقموعين". كان التقارب والشعور من أهم الأمور التي استفاد منها المشاركون لفهم وجهة نظر بعضهم البعض واستكشاف الطرق المختلفة التي قد نشارك بها في التغيير الاجتماعي والسياسي.
الخشبة العربية
المسرح العربي مسرح هشّ، وما زال يقطع خطواته الأولى في تطوير لبناته ومواضيعهِ وحتى إيجاد من يفرد نفسه لهذا النوع من الفن بعيدًا عن أضواء السينما أو التلفاز. وعلى الرغم من تأثر هذا القطاع سلبيًا، إلّا أن كُتاب ومنظري ومخرجي المسرح العربي كانوا أكثر حزمًا وإيجابية في ما يتعلق بمواضيع المسرح والتحضير له ما بعد كورونا. يقول الناقد التونسيّ عبد الحليم المسعوديّ إن "فنون الفرجة وعلى رأسها المسرح تجد معضلة في مواجهة حالة الانغلاق، أي في حالة استحالة التقاء الفرجة بالجمهور كما هو الحال في أزمات الوباء المعمم".من جهته، يقول أستاذ الدراما والنقد أبو الحسن سلام عبر موقع "ذي إندبندنت"، منتقدًا الكُتاب الذين يحاولون استغلال الأزمة، إن "المسرح فن المشاركة الحيَّة، اندماج بين مجتمع عارِض ومجتمع متفرِج، لا مصداقية لتأثيره عاطفيا وإدراكه بعروض تزامنت كتابة نصوصها مع آنية حدث وبائي، أكان كورونا أم أياً ما اصطلحت له من أسماء". يوافقه في هذا الكاتب والناقد المسرحي البحريني يوسف الحمدان إذ أوضحَ أن التصدي لجائحة الكورونا مسرحيًا "لا يتطلب منا مواكبة طارئة عابرة أو وقتية [...] وإنما يتطلب ويقتضي منا اشتغالا فكريا رؤيويا ينطلق ويتشكل من العمق، أو يكون موازيا ونداً لحالات التشكل في هذا الفيروس".
واستكمالًا لمسلسل التشاؤم، كان للمسرحيّ محمد الحرّ من المغرب رأي مختلف من وجهة نظرهِ، ليس للمسرح العربي ذلك الحضور والعمق والأهمية مقارنة بالفنون الأخرى، وحتى مواسم العروض، لا تتجاوز فيها العروض عربيًا أو مغربيًا عددًا مُعينًا، وبالتالي تكون هذه المواسم ضبابية حسب تعبيرهِ.
يوجد إجماع عالميّ على عدم وجود بديل للجمهور الحي والتفاعل المُباشِر بين الجمهور والكادر المسرحيّ، ولكن وعلى خلاف الخوف والخطر من المسرح الغربي، يبدو أن المسرح العربي وبسبب الأزمة التي يعيشها من قبل كورونا، يبدو متحفّزًا وجاهزًا للانطلاق بعد انتهاء مشاكل الوباء، بل ويشهد حالة تروٍ في الكِتابة والإنتاج، منبّهًا إلى أهمية إدراك الواقع وما مررنا بهِ قبل البدء من جديد أو العودة للقديم.