منذ بدأ العالم العربي صخبه وحركته وطوفانه حول ذاته،، في مطلع هذه العشرية من القرن الواحد والعشرين، تغيَّر أمران في نسيج الحياة العربية، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. حدث أولاً ما يُمثِّل امِّحاءً في الزمن الرماديّ، وأصبح الزمن هو الزمن صفر، أي بلا لون أو رائحة سابقة؛ زمن يُلغِي ما قبله، ويطلق الأرقام بعده، لندخل تكويناً زمنياً جديداً، وهو منطلق، في حدّ ذاته، لتَكون عقليةٌ زمنية عربية جديدة، أثّرت سريعاً في دول "العالم المُتحضِّر" ووجّهت صفعةً قاسيةً لإنسانيتها البلاستيكية، فوقف الجيل الغربيّ الجديد أمام معضلة اللغة العربية وتعلُّم مدلولاتها الثورية، في حين أصبح الجيل العربي الناشئ في صلب هذا التغيير، جيلاً ينتمي إلى عِرقيّته النبيلة الآسرة، المبتكرة من لا شيء.
كل شخص كان سابقاً لا يمتلك شيئاً، لا مادياً ولا معنوياً، أصبح يمتلك الزمن "صفر"، الذي سيزيد عليه ما يريد. والقضية هنا تخصّ أشخاصاً يمتلكون نضارة عمرية أو فكرية. وما يفيد في الزمن صفر، أنّ كل خيبات العربيِّ ونكباته ونكساته السابقة وُضِعت في صندوق أسود، وأُغلِق عليها بإحكامٍ. وهذا لا يعني أنها باتت غير موجودة، لكنها وُضِعت في الأرشيف العربيّ، أرشيف لم يكن متصلاً مع المسرح يوماً، بل مع أداء تمثيلي هزلي أو تراجيكوميدي ركيك، يشبه ما يُعرَض في المسارح التجارية. وهنا أصبح الشارع العربيّ هو المسرح الحداثوي في اختزاله الواقع ونقله من رتابته إلى شكله الأسطوريّ، الذي لا يُصدّق.
امرأة سوريّة تحرق نفسها أمام مكتب الأمم المتحدة في طرابلس (لبنان). ويقول الخبر الصحفي بلغة ميلودرامية: أضرمت النار في نفسها، ووضعت حداً لحياتها كي تبقى حية. أين الخبز أيها العرب؟ سؤال لم يكن مطروحاً سابقاً، سوى من منطق تنظيريّ ضحل. الآن جسد المرأة خبز محترق، وأولادها خلف الدخان الأسود، بلا وجوه!
الأمر الآخر الذي تغيّر، أنَّ المكان أيضاً تضاءل ليصبح مكاناً من دون حيّز، إذ انتقل الصراخ العربيّ الكلاسيكيّ والندب والنواح إلى حيّز مكانيّ، أُلغِيَ فيه شرط المكان، ألا وهو صفاته الوصفية المختلفة وفرادته عن غيره من الأمكنة، بحيث أنّ ريحاً خفيفة تتلاعب بأغصان الأشجار، قد تُبدِّل جمود صورة فوتوغرافية، تُؤخَذُ إلى مكان واحد، مرتين، قبل هبوب الريح وبعدها.
كل السوريين، مثلاً، جلسوا في حصارهم على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، جلسوا كما لو أنهم في قاعة للمحاكمة، يشاهدون مسرحاً يجوب فيه القضاة والمحامون أمام المجرم؛ كلهم صامتون، ومرغمون على الجلوس بحكم أحداث المسرح الجارية أمامهم، وبحكم الرصاص والقذائف، خارج القاعة؛ إنهم الضحية السورية الجمعية، وفي حين كان الكل "أون لاين"، يراقب شاشة فيسبوك، أو الأخبار العاجلة على شبكة الإنترنت، مرّ وقت عصيب بلا ماء ولا كهرباء ولا غذاء ... مرّ وقت مُهلِك تحت القصف، مات من مات، ومات من ينتظر موته، مرات عدّة.
كان المكان سجناً بسماوات مفتوحة. الوجوه المتراصة كالحجارة في مخيم اليرموك، في دمشق، تنمو كصخور مُحدّبة. ما تحتاجه هو أمرٌ واحد فقط، مقلاع كبير، يقذفها بسرعة لتهدم الجدار، لتطوف فوق الأسوار.
البصر هو نحول الروح، ثم تطاوُلها لترى ما خلف الجدران. كل سوريّ يحظى بتشميسة واحدة في النهار، وكسرة خبز إضافةً إلى سكين، في حال احتاج إلى أن ينتحر، قبل وصول دوره ليُقتل!
الأطفال يلعبون لعبة المسرح، لأنها اللعبة الوحيدة الحقيقية، والتي تُمكِّنُهم من سرد أحلامهم. كل الأطفال يُمثِّلون بالضرورة، أو يقلدون ما يُمثِّله الكبار في واقع المسرح العربي. هناك أطفال يلعبون لعبة تسمى "لعبة الشهيد"، يضعون طفلاً على لوح خشبي. إنه الطفل الأخفّ وزناً، فالشهداء أطياف خفيفة. يحمل الأطفال صديقهم ويدورون به المكان الضيّق، وهو يضحك على الخشبة، أو على لوح الخشب، في حين أن طفلة لا يتجاوز عمرها السنوات الخمس، تطمر أخاها الأصغر تحت التراب، حتى لا يتضح، تحت اللون البنيّ الغامق المُخثّر، سوى وجهه. يضحك، بينما هي تلهو، والتراب يضغط على صدره، لأنه مادة واقعية في نهاية المطاف.
كل شيء كما الحلم، سرابُ ما كان، وما سيكون. إننا نخلق علاقة الأرض بالسماء من جديد، ونأمل أن تأتي مخلوقات أسمى من البشر، لتُنهِيَ كارثة الحرب. إنها الحرب الزرقاء التي تحوم حول رأسها الفراشات. حرب بين الجلاد والضحية، ضحية هي الكل، وجلاد هو الفرد. الجلادون لا يتجاوزون عدد الغربان، لكن من تبقّى من البشر هم الضحايا، ضحايا نظام عالميّ بائس، هو المخرج الأزليّ، لمسرحنا الواقعي، هذا المخرج الأخرق الذي يرغم الجميع على ترك الخشبة، ليستلذّ بالجثث الممددة فوقها، من سنين.