لم يعد مألوفاً اليوم في بغداد أن تشاهد عائلات أو شباباً يرتادون، كما في ما مضى، عروضاً تقدّمها المسارح العراقية، بعد أن امتلأت صالات العرض بأعمال تجارية، في ظل غياب معايير مهنية لمشهد ثقافي مضطرب منذ أكثر من عقدٍ من الزمان.
على أعتاب ذكرى ولادته التسعين، يقف المسرح العراقي على مفترق طرق، بعد رحيل أو هجرة أو انزواء جيل الكبار، وانحسار العروض الجادة المواكبة لحركة المسرح في العالم.
تاريخياً، تأخر ظهور المسرح في العراق مقارنة مع نظيريه المصري والشامي، فبحسب الروايات التاريخية لم تظهر أول مسرحية حديثة إلا سنة 1924. ويرى بعضهم أن تأخر احتكاك الثقافة العراقية بالغرب هو أحد أسباب تأخره عن نظيريه الشامي والمصري. وذات الرأي هو الذي يرى أن المسرح بشكله الحديث، ترافق مع جيوش "الحملة الفرنسية" إلى مصر، في بدايات القرن التاسع عشر، لينتقل منها إلى الشام؛ وأنه لم يظهر في العراق حتى مجيء الاحتلال البريطاني.
بعد ذلك، انطلقت تجارب بدائية كانت أقرب إلى المسرح الحر الذي يقدّم في الشوارع والمقاهي والأحياء الشعبية، قبل أن تتبلّور أعمال بملامح مهنية واضحة، عبر فرق مسرحية كانت بدايتها مع فرقة أسّسها الفنان محمد خالص ملا حمادي، ثم تلتها "الفرقة الوطنية" و"جمعية إحياء الفن" و"الفرقة العصرية" وغيرها.
تضاف إلى ذلك أعمال قدّمها في ما بعد روّاد مثل يوسف العاني وسامي عبد الحميد وناهدة الرماح وحقي الشبلي وخليل شوقي وزينب إبراهيم جلال وبدري حسون فريد وآخرون، ليستمر التطور الطبيعي للحركة المسرحية في إطار ازدهارٍ ثقافيٍّ عرفته البلاد، لا سيما في عقد السبعينيات. وإن كانت هناك روايات أخرى ترفض اقتران ولادة المسرح العربي الحديث بالواقعة الاستعمارية.
لكن الأوضاع المضطربة التي مرّ بها العراق، وجرفت في طريقها الثقافة، أصابت المسرح كذلك. ويكاد يُجمع النقاد الفنيون على أنّ صالات العرض المسرحي الكبرى اليوم تكاد تفتقر إلى أي عملٍ ذي قيمة فنية، في حين يزدهر المسرح التجاري بكافة عناوينه ذات الصبغة السطحية، ونجومه الذين ظهر معظمهم في العقد الأخير، من دون أن يكون لهم أي إرث فني معروف.
آن خالد، مخرجة وممثلة مسرحية، تعزو تدهور حالة الفن السادس في العراق إلى عدة أسباب، في مقدّمتها الوضع الأمني المضطرب الذي يهدد حياة الناس، إضافة إلى مقصّ الرقيب السياسي الذي يحول دون ظهور أعمال تناقش الواقع وتنقده بصورة شفافة وحقيقية. بل إن بعض الفنانين، كما تشير خالد، يتلقّون باستمرارٍ تهديداتٍ بسبب أعمالهم وانتقاداتهم بعض الظواهر الاجتماعية التي أصبحت تتحكّم بحياة الناس.
كما أن غياب الرواد عن الساحة أدى إلى ظهور كثير من الثغرات في الأعمال المقدّمة، لا سيما مع ازدهار المسرح التجاري أو الشعبي الذي هجره كثير من الفئات بسبب مستواه الهابط فنياً، والذي لا يراعي عادات وأعراف وثقافة المجتمع، حتى باتت العائلة العراقية تخشى حضور هذه الأعمال بسبب الألفاظ الخادشة للحياء، وتسيُّد هذه العروض مجموعة من الطارئين على الوسط الفني.
أما وسام فلاح، وهو مخرج مسرحي، فيلقي باللائمة على ضعف الحالة الإنتاجية وقلّة الدعم الحكومي الذي يرتبط بالعلاقات الشخصية والوساطات. ويرى فلاح أن المشكلة بدأت في تسعينيات القرن الماضي وازدادت سوءاً بعد عام 2003، حين لم تعد تلقى النصوص الجادة أي احتضان وتشجيع، في مقابل رعاية بعض القنوات وشركات الإنتاج الأعمال الهزلية (السوقية)، كما أن الكليات والمعاهد الفنية لم تعد تقدّم، على الأغلب، فنانين حقيقيين بسبب تعقيدات دراسية ومنهجية وبعض قوانين التعليم العالي في البلاد.
"أكاديمية الفنون الجميلة" التي غاب دورها في السنوات الأخيرة بشكل كبير، تتلقى أيضاً الكثير من اللوم. إذ يُرجع بعض المراقبين للمشهد المسرحي العراقي الراهن الضعف في الأداء المسرحي إلى مستوى خريجي هذه الأكاديمية، واهتمام القائمين عليها بالكم على حساب النوع.
أنمار سعد، طالب في المرحلة الثالثة بالأكاديمية، يقول إن العديد من المتقدّمين للدراسة في هذه المؤسسة لا يمتلكون أي موهبة. ويرى أن الرغبة في الشهرة تدفع كثيرين من أبناء جيله إلى سلك طريق التمثيل، مع غياب أيّ حالةٍ نقدية على مستواهم، قبل وبعد التخرّج.
وفي سياق ما يراه البعض فوضى عارمة وغياباً للرؤية يعصفان بالحالة الثقافية في بلاد الرافدين، يبدو أن المسرح العراقي بات اليوم عاجزاً عن التعبير عن هموم المجتمع ومحاكاة مشاكله، فضلاً عن عجزه بأن يضطلع بدور طليعيّ في نشر الوعي والحداثة في مجتمعٍ يئن تحت وطأة الانقسامات الطائفية والقومية. ويبقى المسرح في حاجة إلى موقفٍ جاد من القائمين على الملف الفني، يعيد إليه ألقه وريادته وإسهامه في تغيير حقيقي طال انتظاره.