"هل غيّر هذا الوضع (ما بعد 2001) من النمط الفكري والفنّي للمسرح التونسي أم أن الرقابة الذاتية على الفكر تمادت برغم الشعارات المرفوعة أمام التهديدات المعلنة أو الضمنية التي تمارسها فئات من المجتمع بفكرها المتعصّب دينياً أو أيديولوجياً؟". هكذا تضعنا ورقة عمل ندوة "أوهام الحرية في واقع منفصم ورقابة متخفية" في الإشكالية التي تداول على مقاربتها مجموعة من المتحدّثين من زوايا مختلفة ضمن فعاليات "لقاء العرض الأول" في قاعة "مربّع الفن" في تونس العاصمة الخميس الماضي.
كانت المداخلة الأولى نصاً ساخراً للكاتبة المسرحية زهرة الزموري، وبعدها حاضر المخرج منجي بن إبراهيم عن علاقة المسرح بالتوترات السياسية، ليتطرّق إلى انعكاسات "ممارسة الديمقراطية المشوّهة" أو "الحرية السياسية الاعتباطية" على الفن، معتبراً أن "الديمقراطية هي الجانب الآخر من ديكتاتوريةٍ على النفس". يشبّه بن إبراهيم الحريات في المرحلة الأخيرة بانتشار الباعة المتجوّلين حيث يمكن أن تكون الحرية مُربحة ولكنها مُضرّة مثل بضائع السوق السوداء.
في المداخلة الثانية، تحدّث الناشط السياسي محمد الخنيسي عن الفضاء العمومي الذي جرى تحريره بعد الثورة ما أفسح المجال أمام الفنانين للتعبير بحرية، وأتاح خروج المسرح والفن عموماً إلى الشارع وهو ما تبعه إنشاء فضاءات جديدة كالمقاهي الثقافية أو فنون الشارع، ولكن ذلك تزامن أيضاً مع هيمنة محتويات فنية ذات جودة سيئة فرضتها البرامج التلفزيونية.
ثمة مفارقة يرصدها الخنيسي، وهي أنه رغم هذا الانفتاح "لم نجد مسرحاً واحداً يُبعث بعد الثورة". يشير إلى أدوار كثيرة ساهمت في ذلك منها نُخب الفن القديمة والتي عليها أن تعترف بأنها في سياق الثورة التونسية قد أخذت القطار وهو يسير، وأن الثورة أفرزت هي الأخرى عوامل هيمنة جديدة (الحجم السياسي للقوى المحافظة)، وأن التجربة أتاحت للبعض أن يكتشف أن "ثمة خوفاً من الحرية ونحن نمارسها" وضمن كل ذلك لم يجر مراجعة الترسانة القانونية للتضييق على الفن.
من جهته، يتساءل الناشط الثقافي الطاهر العجرودي، هل كان "التحرّر مطلباً شعبياً أم نخبوياً؟" مستشهداً بعبارة عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب بأننا عشنا "غلافاً براقاً من الحريات" وهذا الوضع وضع الفنانين أمام حقيقة مهاراتهم الإبداعية.
يلفت العجرودي إلى أن الكثير من المناطق في تونس شبه محرّمة فنياً، لأسباب متعلقة بالفقر والتعطيلات الإدارية وترسّبات اجتماعية وعقائدية، معتبراً أن عدم الاقتراب من بعض المناطق (بالمعنى الجغرافي والفني) هو "الخيار الأسلم لأكثر القطيع الفني"، وفي غياب هذه الخطوة سيظل التحرّر في هذه البلاد موهوماً؛ أي إنه ليس سوى "وهمٍ نسوقه لنرتاح قليلاً".
في كلمة لاحقة، تحدّث الكاتب محمد الطاهر الضيفاوي منطلقاً من إشارة إلى كتاب "كلاب الحراسة" لـ بول نيزان والذي يفضّل ترجمته بالعامية التونسية "كلاب العسّة"، وهو الدور الذي لعبته وزارة الثقافة في تونس، والتي أُنشئت في رأيه للحدّ من سلطة المضادين للسلطة. بناء على هذه المقاربة، يفسّر الضيفاوي أن المسرح التونسي استفاد أساساً من بعض التجارب الخاصة التي نأت بنفسها عن سياسات الدولة الثقافية وأوجدت هامشاً للحريات، وهو ما يعبّر عنه بالقول "المبدع يظلّ فخوراً بيُتمه".
فضّل الفنان المسرحي توفيق الجبالي أن تكون كلمته مجموعة من الشهادات المتفرّقة. وانطلاقاً من فكرة متغيّرات الرقابة المنظمة، تحدّث عن الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة الذي أظهر علاقة تماهٍ مع المسرح، بسبب ممارسته والذي يظهر في خطاب معروف له، جرى تجسيده لاحقاً في "لجنة التوجيه المسرحي".
تتضمّن اللجنة 15 عضواً من منظمات هيئات مختلفة مثل وزارة الثقافة ووزارة الشؤون الاجتماعية والشؤون الدينية ووزارة الداخلية. يلفت الجبالي هنا إلى مفارقة وهي أن أكثر أعضاء هذه اللجنة انفتاحاً كانوا ممثّلي وزارة الداخلية وأكثرهم تشدّداً ممثّلو وزارة الثقافة.
يعتبر صاحب "كلام الليل" أن قصص المنع لم تكن متعلقة بأفكار كبرى وإنما بتخوّفات المسؤولين من عبارات متفرّقة في النصوص، أي إنها كانت من التفاهة بمكان، وانتهى الأمر بأن أصبح المسرحيون ينجحون في تمرير مضامينهم مع مراعاة متطلّبات اللجنة، وهي حوادث يرى الجبالي أنه يمكن استرجاعها اليوم من زاوية "نكتوية"، مقدّماً أمثلة من قبيل رفض اللجنة نصاً جاء فيه "رائحة فمك كالخرا"، ثم قبلته حين جرى تحويره إلى "رائحة فمك أبخرا"، أو رفض استعمال كلمة "القصبة" حتى بمعناها الحَرفي لأن مكاتب الحكومة تقع في "القصبة" في مدينة تونس.
هذه التفاهات كانت جوهر العلاقة بين المسرح والرقابة في تونس بحسب الجبالي، وبالتالي فهي بالنسبة إليه "رقابة مُمتعة" و"ليست أكثر من رقابة تقارير بوليسية". يتابع المسرحي التونسي شهادته بالحديث عن نهاية حكم ورقيبة، فمع صعود بن علي في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 جرى الإعلان بأن "لجنة التوجيه المسرحي" قد ألغيت.
رحّب معظم المسرحيين بذلك، لكن الجبالي اعترض ما جلب له تهماً كثيرة وقتها. يبرّر صاحب "هنا تونس" بأنه اعتبر أن تفاهماً ضمنياً قد تحقّق بين الرقباء والفنانين، وأن اللجنة كانت في الأخير تسلّم العروض وثيقة فتفتح لها أبواب العرض في مسارح البلاد، وبإلغاء هذه الوثيقة أصبح أصغر مسؤول في الجهات الداخلية يمكنه وقف عرض، ما يفتح الطريق أمام رقابة أخطر، ومن ورائها رقابات أخرى.
ضمن الحوار المفتوح الذي تلا المداخلات، تفاعل الناقد المسرحي عبد الحليم المسعودي مع شهادة الجبالي، واعتبر أنه يمكن قلب عنوان الندوة من "أوهام الحرية" إلى "أوهام القمع"، إذ لم تكن هناك رقابة حقيقية، ليحصر المسعودي الخلل بأن هذه الرقابة قد اختلقها عدم القدرة على الإبداع فلما باتت الحريات مبذولة لم يجد المسرح نفسه فاعلاً ضمن السياق الجديد، ليشير إلى أنه بات يخشى من أن يكون حرصنا على المسرح سبباً في الدفاع على أكذوبة تقول بازدهاره.
الحوار المفتوح تضمّن أيضاً إشارات أخرى إلى مسألة الرقابة كما في شهادة المخرجة سميرة بوعمود التي لفتت الانتباه إلى رقابة يمارسها الفنانون ضدّ بعضهم، ومنها رقابة الممثلين على النص ورؤية المخرج.
وأشارت الإعلامية عواطف المزوغي إلى أننا في تونس فقدنا لذة الاستمتاع بالجرأة، ولذة فك الرسائل المشفرة التي تتضمّنها المسرحيات كما كان الحال قبل الثورة، وعاد الخنيسي بإشارة إلى "رقابة التشاؤم" التي تهيمن اليوم في الحياة الثقافية التونسية، أو استعمال وسائل أخرى مثل منظومة التمويل أو "المواطن الرقيب" كما في حديث المخرج أيوب الجوادي.