المستحيل الممكن

30 اغسطس 2014

تلميذات فلسطينيات في مدرسة في غزة (Getty)

+ الخط -

استمعت إلى خالد مشعل في ندوته الصحفية مع قناة الجزيرة، فاستمعت إلى رجل سياسي، وليس إلى داعية ديني، رجل سياسي، يدافع بدون أوهام عن نتيجة المفاوضات التي توصلت إليها المقاومة، بواقعية وطنيةٍ، تدرك هول التدمير والتقتيل الذي يلحق بالشعب في غزة، وتدرك مشروعية مطالبه التي قدم في سبيلها تضحيات عظيمة. رجل سياسي، لا يؤسطر الانتصار الفلسطيني، ولا يقلل من شأنه، ويشدد على البعد التاريخي الرمزي والمادي لصمود الشعب الفلسطيني، في وجه الآلة العسكرية الصهيونية التي لم تتردد في قصف المدارس والمستشفيات والمساجد وقتل آلاف المدنيين. رجل سياسي أخيراً، لأنه يختصر الأفق الممكن، أولاً، في استمرار الوحدة الوطنية، وثانياً في تطبيق رفع الحصار يومياً وبكل الوسائل، وثالثاً في مواصلة التفاوض على المطالب المتبقية، ورابعاً في جعل المقاومة وسلاح المقاومة رصيداً مشتركاً للفلسطينيين، كل الفلسطينيين، يستمدّون منهما قدرتهم على الصمود والتفاوض.
إنه خطاب يتسم بكثير من النضج والواقعية والوضوح، خصوصاً عندما يتوجه إلى يهود العالم، ويعبر لهم عن قناعة الفلسطينيين العميقة بضرورة تعايش كل الأديان على أرض فلسطين الآمنة، وأن الذي يمنع الأمن والسلام هو العدوان والاحتلال والاستيطان، أياً كانت ديانة المعتدي.
من المؤكد أن التدبير السياسي لهذه المواجهة التي استمرت أزيد من خمسين يوماً، وحصدت أرواح أزيد من ألفي فلسطيني، ودمرت مئات المنشآت والمرافق والمنازل، كان تدبيراً استثنائياً في صبره وقوته وتماسكه، يرجع الفضل في ذلك إلى القادة الفلسطينيين جميعهم في الضفة والقطاع.
الآن، وقد بدأت "الهدنة الدائمة"، سيعرف هذا التدبير أول اختبارٍ له في أرض السياسة، بعد الاختبار الناجح على أرض الحرب. الآن، ستلحُّ أسئلة الحاجيات اليومية لسكان غزة، إعادة التعمير وإسكان المشردين وفتح المدارس ومعالجة آلاف الجرحى والمعطوبين. والآن، ستلح أسئلة الفلسطينيين السياسية، حول استكمال المصالحة، وتنظيم الانتخابات، وتجديد النخب السياسية، وبناء الدولة الديموقراطية المدنية. إن تدبير هذه الأسئلة هو الذي سيفتح صفحة جديدة في مسار القضية الفلسطينية، إذا كانت تطورات هذه القضية قد ارتبطت، عقوداً طويلة بتطور المحيطين العربي والدولي، فإنها، اليوم، لن ترتبط أساساً إلا بتطور البؤرة الفلسطينية، ومن أهم تحولات هذه البؤرة ما يتعلق منها بالإصلاح السياسي، سواء كان إصلاحاً في السلطة، أو إصلاحاً في التعبيرات السياسية.
نجح صمود غزة في تحطيم الأكذوبة الإسرائيلية التي كانت تحشر المقاومة في خانة الإرهاب الذي يتوجب على العالم أن يتعاون من أجل القضاء عليه، وقد فهم جزء كبير من العالم أن الاحتلال الإسرائيلي هو الإرهاب الجوهري في المنطقة. الآن، وبعد الحرب والمفاوضات وما سيترتب عنهما، سيكون على الجانب الفلسطيني أن يعزّز انتصاره على الأكذوبة ببناء حقيقته الجديدة، ما يتطلب منه أن يشتغل بقوة على أوضاعه الذاتية، أي أن يشتغل على تجديد السلطة وعلى تجديد حماس، السلطة يجب أن تطوي، بصفةٍ لا رجعة فيها، صفحة الخلاف والتشرذم، وحماس يجب أن تطوي صفحة "التيار الديني" الذي يسبح في المياه الغامضة لتيارات قريبة منه أو بعيدة عنه، لأن الأمل الناشئ بعد هذه المعركة لن تكون له جذور وأغصان، إلا إذا ارتبط بتجديد سياسي عميق، يجعل من السلطة سلطة ديموقراطية، تحافظ على الوحدة والتعدد، ويجعل من حماس حزباً سياسياً فلسطينياً مدنياً، وليس فرعاً فلسطينياً لتيار واسع تختلط فيه داعش والنصرة والإخوان والقاعدة والشباب وبوكو حرام والتعبيرات السياسية ذات المرجعية الدينية، متطرفة أم  معتدلة، والحال أنه، في وقت كانت فيه جل هذه الأشكال، وما تزال، تنشر الظلام والفتنة واليأس، كانت حماس مع كل الفصائل الفلسطينية الوطنية تشعل شمعة المقاومة في هذا الليل البهيم. 

F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.